رؤية الدكتور ديفيد كوهين والأحاجي المصرية للغاز

رؤية الدكتور ديفيد كوهين والأحاجي المصرية للغاز

علمونا في كتب الإعلام القديمة أننا لسنا أوصياء على الحكومات، ولسنا رسل الكلمات التي لا ترد، ولسنا أيضاً نمتلك مفاتيح القرارات الكبرى، لكننا في المقابل أصحاب حق أصيل في المعرفة والمصارحة والحصول على المعلومات، تلك هي معضلتنا -نحن الصحفيين الاقتصاديين- حين نطرق باباً لمسؤول حتى نفهم وتكون رسالتنا واضحة للجمهور.
حين تتخذ الحكومات قرارات تمس الموارد الاستراتيجية، أو تعقد صفقات كبرى في مجالات الطاقة، أو تغيّر سياساتها الاقتصادية على نحو جذري، فإن الشفافية هنا ليست ترفاً، بل ضرورة وطنية، فالأمن القومي الاقتصادي لا يقل أهمية عن الأمن العسكري، إذ يشكل قاعدة الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ويحدد قدرة الدولة على مواجهة الأزمات العالمية.

حلم الدكتور ديفيد كوهين

بعيداً عن صمت القاهرة دعوني أقص عليكم تلك الرواية الواقعية لحلم الدكتور ديفيد كوهين، ففي عام 1991 كان حلم الدكتور ديفيد كوهين تأسيس شركة للطاقة في الشرق الأوسط، وبالتعاون مع الجيولوجي إيلي روزنبرج، وجدعون تدمر، استطاع أن يحقق الهدف وأعلنوا عن تأسيس شركة أفنر لاستكشاف النفط والغاز.سرعان ما توسعت طموحات الكيان الثلاثي وبعد عامين فقط، أي في عام 1993، تأسست شركة ديليك للحفر كشراكة محدودة، وهي الذراع المتخصصة في مجال الطاقة لمجموعة ديليك، إحدى الهيئات الأقدم في الاقتصاد الإسرائيلي.

شيفرون.. نوبل إنرجي سابقاً

لم يتوقف الطموح عند هذا الحد، بل في غضون 5 سنوات أخرى ظهر على الساحة اسم جديد وهو إسحاق تشوفا، الذي أصبح مالكاً لمجموعة ديليك، وقرر تعزيز عمليات المجموعة في مجال الطاقة، كما شارك عملاق الطاقة الأميركي نوبل إنرجي (المعروفة الآن باسم شيفرون)، وتعاونت الشركتان في استكشاف احتياطيات الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط.

أول اكتشاف للغاز في إسرائيل

عام واحد فقط من امتلاك إسحاق تشوفا لديليك كان الفاصل بين الصفقة وأول اكتشاف للغاز قبالة سواحل إسرائيل بشكل متواضع في خزاني «نوا» و«ماري ب» معا «يام تيثيس»، أول مشروع للغاز الطبيعي في إسرائيل أي في 1999.بعد خمس سنوات أخرى، أي في 2004، انتقل مشروع يام تيثيس الغاز الطبيعي إلى السوق الإسرائيلية عبر الأنابيب، لتنتج شركة كهرباء إسرائيل الكهرباء من الغاز لأول مرة منذ إنشائها بشكل مستقل.

خزان تمار الكبير

كذلك بعد خمس سنوات جديدة، أي في 2009، كانت إسرائيل على موعد مع خزان جديد في البحر المتوسط، حين أعلنت شركة نيوميد إنرجي، بالتعاون مع شيفرون وشركاء آخرين، عن اكتشافها لخزان ضخم من الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل وهو خزان تمار، باحتياطيات مؤكدة تبلغ 306 مليارات متر مكعب، ليصبح تمار فور اكتشافه أكبر اكتشاف للغاز في المياه العميقة في إسرائيل، مبرزاً الإمكانات الهائلة للطاقة في منطقة ساحل البحر الأبيض المتوسط، ولم يتوقف نشاط الكيان الكبير وفي العام نفسه، وبعد «تمار» واصل الشركاء أعمال الاستكشاف وحفر بئر داليت قبالة سواحل الخضيرة.

ليفياثان.. أكبر حقول المتوسط

في عام 2010 تم اكتشاف حقل ليفياثان، أكبر حقل للغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط وأحد أكبر الحقول في العالم، من قبل شركات نيوميد إنرجي وشيفرون وريشيو، باحتوائه على نحو 650 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وكان يعد ليفياثان، عند اكتشافه، أكبر اكتشاف للغاز منذ أكثر من ألف عام.

أفروديت والربيع العربي

أما في عام 2011، وبينما كانت المنطقة العربية منشغلة برياح الربيع العربي حيث اندلعت حركات شعبية ممنهجة في نحو 5 دول من بينها مصر، أُعلن عن حقل أفروديت، الواقع في منطقة امتياز نيوميد إنرجي وشيفرون وشل في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، كمخزون محتمل للغاز الطبيعي يبلغ 129 مليار متر مكعب، ويعد هذا أول اكتشاف للغاز الطبيعي يُكتشف قبالة سواحل قبرص.

تمار من البحر إلى عمق إسرائيل

بعد عام واحد فقط، أعلنت شركة نيوميد إنرجي عن اكتشاف حقل تانين، وهو حقل مُعلن عن إمكاناته لاحتواء 35 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وفي العام نفسه وقعت نيوميد إنرجي، بالتعاون مع شركاء إقليميين في حقل تمار، اتفاقية رئيسية مع شركة الكهرباء الإسرائيلية، ما يمكن من خفض استخدام الفحم في إنتاج الطاقة بشكل ملحوظ، وفي عام 2013 وصلت بالفعل أول دفعة من الغاز من حقل تمار إلى شواطئ إسرائيل، ويُعتبر هذا المشروع من أنجح المشاريع في قطاع الطاقة العالمي كما وصفته الشركة.

اكتشاف كاريش وتصدير الغاز لمصر والأردن

في غضون عام وحيد، أي في 2013، أعلنت نيوميد إنرجي وشركة شيفرون عن اكتشاف غاز آخر، وهو خزان كاريش، الذي يقع على بعد 75 كيلومتراً شمال غرب حيفا ويحتوي على ما يقرب من 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وتوالت الأحداث حتى عام 2014، حينها وقعت شركات الغاز الإسرائيلية سلسلة من مذكرات التفاهم لتصدير الغاز إلى شركة الكهرباء الأردنية والسوق المحلية المصرية ومرافق تسييل الغاز التابعة لشركة بريتيش جاز ويونيون فينوسا في مصر.

بيع كاريش وتانين

في عام 2016 باعت شركة نيوميد إنرجي حقلي غاز كاريش وتانين لشركة إنرجيان اليونانية، وفي سبتمبر من العام نفسه، وقعت اتفاقية غير مسبوقة لتصدير ما مجموعه 45 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من حقل ليفياثان إلى شركة الكهرباء الأردنية على مدى 15 عاماً.

من ثامار إلى الأردن

أما عام 2017 فقد شهد لأول مرة في التاريخ، أن تنتج إسرائيل الغاز الطبيعي لصالح دولة مجاورة، الأردن، عبر وصلة بشبكة النقل الإسرائيلية قرب سدوم، يُضخ الغاز من حقل تمار إلى مصنعين أردنيين على البحر الميت، هما شركة بروميد الأردن وشركة البوتاس العربية.

صفقة دولفينوس

بعد وصول الغاز الإسرائيلي إلى الأردن جاء الدور على مصر، وفي عام 2018 وقع الشركاء في حقلي تمار وليفيثان اتفاقيات تاريخية لتصدير الغاز بقيمة إجمالية تبلغ 15 مليار دولار مع شركة دولفينوس المصرية، لبيع إجمالي يبلغ نحو 64 مليار متر مكعب على مدى 10 سنوات من الخزانين.

عصر جديد

يبدأ ضخ الغاز الطبيعي من حقل ليفياثان إلى العملاء في إسرائيل والأردن ومصر، يُمكّن غاز ليفياثان إسرائيل من اتخاذ قرار بالتوقف عن استخدام الفحم، ويحل محل الوقود الملوث الذي كان يستخدم في مصر والأردن وإسرائيل، وتستحوذ شركة نيوميد إنرجي، بالاشتراك مع شيفرون وشركة غاز الشرق المصرية، على حقوق الملكية والتشغيل والقدرة في خط أنابيب EMG الذي يربط بين أنظمة النقل الإسرائيلية والمصرية، وبالتالي تضمن تنفيذ عقد التصدير الذي تم توقيعه بين الخزانات في إسرائيل والسوق المصرية. وفي ذروة أزمة كوفيد المعروف بوباء كورونا، روجت شركة نيوميد إنرجي لواحدة من أكبر المعاملات المالية في العالم في عام 2020، حيث جمعت 2.5 مليار دولار من السندات من بعض أهم هيئات الاستثمار والمؤسسات المالية الدولية في جميع أنحاء العالم، والتي تعبر عن الثقة في مشروع ليفياثان والقوة المالية لشركة نيوميد إنرجي، على الرغم من الأوقات الصعبة والتحديات.

اتفاق 2025 الغامض

بعد قصتي التي قد تبدو مملة للبعض، لكن كل كلمة فيها موثقة ومعلنة لدى إسرائيل ومتاح للجميع أن يقرأ تفاصيلها عبر الإنترنت، أعلنت نيو ميد إنرجي في أغسطس الجاري عن صفقة تعديل كبرى على اتفاق تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر، يشمل زيادة ضخمة في الكميات المتفق عليها، مع تمديد فترة التوريد حتى عام 2040، في خطوة تعد الأكبر من نوعها في تاريخ صادرات الطاقة بين مصر وإسرائيل، ووسط غضب دفين في الشارع المصري لم يخرج وزير البترول ليرد بكلمة واحدة على الكم الهائل من الأسئلة الواردة عبر صفحة الوزارة الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ليتركني أنا شخصياً وحيداً مع حلم الدكتور ديفيد كوهين الذي تحقق كاملاً بعد 34 عاماً من تأسيس شركته.