وسط التحديات: هل تستطيع التقنيات المالية تحسين الخدمات المالية في سوريا؟

وسط التحديات: هل تستطيع التقنيات المالية تحسين الخدمات المالية في سوريا؟

في وقتٍ يواجه السوريون صعوبات متزايدة في الوصول إلى الخدمات المالية، تبرز التقنيات المالية (FinTech) فرصة لإحداث تغيير حقيقي. مبادرة جديدة من المصرف المركزي بالتعاون مع وزارة الاتصالات تسعى لوضع سوريا على الطريق نحو نظام مالي رقمي أكثر عدالة وشفافية، لكن يبقى التحدي الأكبر: كيف نبني الثقة ونرفع الوعي المالي لدى الناس؟
تُسلّط هذه التدوينة الضوء على خارطة الطريق الجديدة، متناولاً الفرص التي تتيحها التقنيات المالية، إلى جانب التحديات البنيوية والثقافية التي تعترض هذا المسار.

منظومة مصرفية مثقلة بالتحديات

تتألف الخارطة المصرفية في سوريا من ستة مصارف عامة أرهقها الفساد وضعف جودة الخدمات، بالإضافة إلى أحد عشر مصرفاً خاصاً تقليدياً، ثلاثة مصارف إسلامية، وأربعة مصارف تُعنى بالتمويل الصغير. ورغم هذا التنوّع، لم تستطع هذه المؤسسات توفير خدمات مالية كافية تمكّن المواطنين من إدارة شؤونهم اليومية بشكل طبيعي.

ومن أبرز الإشكاليات التي تُلقي بظلالها على هذا الواقع المالي، تواضع نسبة الأفراد الذين يمتلكون حسابات مصرفية، وهو مؤشر جوهري يكشف عمق الفجوة بين المواطن والنظام المصرفي، ويعكس محدودية الوصول إلى أبسط أدوات الشمول المالي. وللأسف، لا توجد نسبة دقيقة توضّح عدد المواطنين السوريين الذين يمتلكون حسابات مصرفية. ومع ذلك، تشير بيانات «Findex» المتاحة على موقع البنك الدولي إلى أن واحداً فقط من كل أربعة أشخاص في سوريا كان لديه حساب مصرفي عام 2011.لا يمكن النظر إلى الأرقام السورية بمعزل عن السياق العربي الأوسع، إذ تكشف الإحصاءات عن واقع مشترك تتسم فيه المنطقة العربية بتواضع ملحوظ في نسب امتلاك الحسابات المصرفية، لا سيما عند مقارنتها بالمتوسطات العالمية أو بمناطق متقدمة مثل منطقة اليورو. فبحسب البيانات ذاتها، بلغت نسبة الأفراد الذين يمتلكون حساباً مصرفياً في العالم العربي 22% فقط عام 2011 وصولاً إلى 40% بحلول عام 2021. في المقابل، سجّل المتوسط العالمي قفزة من 51% إلى 76% خلال الفترة ذاتها، ما يبرز فجوة واضحة في الشمول المالي بين العالم العربي وبقية المناطق. هذا الاتجاه لا يتوقف عند المستوى الإقليمي فحسب، بل يتكرّر على مستوى الدول. ففي مصر، على سبيل المثال، لم تتجاوز نسبة امتلاك الحسابات المصرفية 27% عام 2021، في حين تُعزى النسبة الأكبر من حالات عدم امتلاك حساب مصرفي بين الأفراد (15 عاماً فما فوق) إلى غياب الموارد المالية الكافية.رغم ما يبدو من أهمية امتلاك الحسابات المصرفية، فإن ذلك ليس كافياً. فالشمول المالي، كما ناقش البروفيسور والحائز جائزة نوبل Abhijit Banerjee، ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة يجب أن تُرفق بثقافة مالية حقيقية. فقد أشار في مقالة نشرها حديثاً في آذار 2025 في Journal of Development Economics إلى أن ارتفاع نسبة امتلاك الحسابات المصرفية في تشيلي لم يؤدِّ إلى تحسّن في معدلات الادخار، ما يبرز أن الحساب المصرفي وحده لا يكفي دون فهم آليات استخدامه وهنا يبردور الثقافة المالية. أما في سوريا، تتسم الثقافة المالية بضعف واضح، سواء على مستوى المعرفة الذاتية أو الفهم الموضوعي للمفاهيم الأساسية مثل الفائدة. فقد أشارت إحدى المسوحات المنفذة قبل عام 2011، والتي شملت 550 شخصًا من أربع مناطق جغرافية مختلفة في سوريا، إلى مستوى متواضع من الثقافة المالية، إذ لم تتجاوز نسبة الأفراد الذين يمتلكون مستوى عالياً من الثقافة المالية 9% فقط. وهذا الضعف يصعّب الاستفادة الفعلية من أي خدمات مالية جديدة. ومما يزيد الطين بلة أن المبادرات المتعلقة بالثقافة المالية والوعي المالي هي مبادرات نادرة، ولم تسعَ المؤسسات الحكومية في العقود المنصرمة إلى تطوير منظومة عمل تُعنى برفع السوية المالية أو الثقافة المالية للمواطنين على تنوع خلفياتهم المهنية والأكاديمية.

التقنيات المالية كفرصة ضرورية

يرتبط ضعف الشمول المالي في سوريا أيضاً بعدد من الإشكاليات البنيوية. حتى قبل عام 2011، كانت الكثافة المصرفية متدنية، ففي عام 2010، كان هناك فرع مصرفي واحد لكل 47 ألف مواطن، بينما يُعد المعيار العالمي المقبول هو فرع واحد لكل 10 آلاف مواطن. إضافة إلى ذلك، فإن هيكلية القطاع المصرفي السوري ظلت محصورة في القطاع العام منذ عام 1963 وحتى نهاية 2003، بناءً على القرار رقم 813 الصادر عن وزير الاقتصاد عام 1966، الذي شدد على التخصص الوظيفي للمصارف. هذا الاحتكار للمصارف الحكومية ترك المواطنين أمام خيارات محدودة، ما دفع العديد منهم للجوء إلى خدمات مصرفية في دول الجوار. في خضم هذا المشهد المالي المعقد، تبرز «التقنيات المالية» (FinTech) كوميض أمل يحمل بين طياته إمكانات هائلة لتجاوز التحديات الراهنة. إن التقنيات المالية اليوم تقودنا بخطى واثقة نحو مستقبل مالي أكثر كفاءة وشفافية، حيث تتلاقى الابتكارات التكنولوجية مع الحلول الذكية لتقديم خدمات مالية أكثر عدالة وشمولاً. مصطلح «التقنيات المالية» يشمل طيفاً واسعاً من الحلول والخدمات المبنية على التكنولوجيا، من أبرزها «الأموال المتنقلة» أو Mobile Money، وهي تطبيقات تُستخدم عبر الهواتف المحمولة وتُتيح إرسال واستلام الأموال دون الحاجة إلى حساب مصرفي. من أبرز التجارب العالمية في هذا السياق تجربة M-PESA في كينيا. وقد أظهرت الدراسات أثراً محموداً لتكنولوجيا «الأموال المتنقلة» على الأسر فقد ساعدتها على مواجهة الأزمات المالية غير المتوقعة، أما على المستوى الوطني فقد أسهمت في نمو التجارة، وحتى في زيادة الإيرادات الضريبية، ما يُميّز «الأموال المتنقلة» عن غيرها من الوسائل المالية هو أنها تتطلب مستوى تقنياً متواضعاً لتطبيقها، وهو ما يتوافر إلى حدٍّ ما في سوريا.

العملة الرقمية.. مسار محتمل

من بين الحلول التي شرعت العديد من المصارف المركزية حول العالم في اعتمادها، تبرز العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي كأداة استراتيجية لمواكبة التحول الرقمي في القطاع المالي. ويُعد البنك المركزي السويدي، أقدم البنوك المركزية في العالم من الرواد في هذا المجال، حيث أطلق أول مشروع لعملة رقمية وطنية في عام 2017. وفي السياق ذاته، تبقى تجربة العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي في نيجيريا (eNaira) تجربة بالغة الأهمية، إذ إن تواضع مستوى الإقبال عليها يسلّط الضوء على الدور المحوري للوعي والثقافة المالية في تحفيز الأفراد على تبني هذا النوع من الحلول واستخدامها بشكل فعّال ومدروس. فقد استفادت جامايكا من هذه التجربة، وحرصت على تقديم حوافز تشجيعية، من بينها استرداد جزء من الإنفاق الشهري، لتعزيز استخدام عملتها الرقمية الصادرة عن مصرفها المركزي (JAM‑DEX).

الثقة المفقودة.. والعقبة الكبرى

ورغم أهمية هذه التوجهات التقنية، فإن أحد أبرز التحديات التي تواجه سوريا يبقى غياب الثقة بالمصارف. وتعود جذور هذه الأزمة إلى تأميم المصارف الخاصة في القرن الماضي، الأمر الذي أثّر سلباً في نظرة المواطنين للمصارف كمؤسسات مستقلة. ومع تفاقم الفساد في عدة مجالات، إلى جانب تفشي الرشوة، تشكّلت بيئة مصرفية تفتقر إلى المهنية، وزادت أزمة السيولة الأخيرة من تعقيد الوضع، حيث لا يزال كثير من المواطنين يفضّلون حفظ أموالهم في المنازل، «تحت الوسادة»، بدلاً من إيداعها في حسابات مصرفية. وتُعد مذكرة التفاهم بين المصرف المركزي السوري ووزارة الاتصالات خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، غير أنها لن تؤتي ثمارها ما لم تُدرج ضمن رؤية شاملة.فإصلاح القطاع المصرفي يتطلب إعادة بناء الثقة، ورفع مستوى الثقافة المالية، وتحسين البنية التحتية، يلي ذلك إطلاق خدمات مالية رقمية تتناسب مع السياق المحلي.ورغم أهمية هذه التوجهات التقنية، فإن أحد أبرز التحديات التي تواجه سوريا يبقى غياب الثقة بالمصارف، وتعود جذور هذه الأزمة إلى تأميم المصارف الخاصة في القرن الماضي، الأمر الذي أثّر سلباً في نظرة المواطنين للمصارف كمؤسسات مستقلة. ومع تفاقم الفساد في عدة مجالات، إلى جانب تفشي الرشوة، تشكّلت بيئة مصرفية تفتقر إلى المهنية. وزادت أزمة السيولة الأخيرة من تعقيد الوضع، حيث لا يزال كثير من المواطنين يفضّلون حفظ أموالهم في المنازل، «تحت الوسادة»، بدلاً من إيداعها في حسابات مصرفية. وتُعد مذكرة التفاهم بين المصرف المركزي السوري ووزارة الاتصالات خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، غير أنها لن تؤتي ثمارها ما لم تُدرج ضمن رؤية شاملة. فإصلاح القطاع المصرفي يتطلب إعادة بناء الثقة، ورفع مستوى الثقافة المالية، وتحسين البنية التحتية، يلي ذلك إطلاق خدمات مالية رقمية تتناسب مع السياق المحلي.