تحولات حاسمة في مجال اتخاذ القرار

في عام 1776، قدم آدم سميث للعالم مفهوم “اليد الخفية”، وهو تفسير منهجي لكيفية قيام العديد من الأفراد بتنظيم اقتصاديات معقدة وفعالة دون وجود تنسيق مركزي، يتخذ المزارعون والخبازون والتجار قراراتهم بناءً على المعرفة المحلية والحوافز، لكن أفعالهم مجتمعة تحدد الأسعار وتخصيص الموارد وسلاسل الإمداد على نطاق عالمي، هذا التنسيق اللامركزي الذي يعمل من خلال إشارات العرض والطلب، هو أساس النظام الاقتصادي الحديث وقد غيّر المجتمعات على مدى قرون.اليوم، يشكل الذكاء الاصطناعي بصمت عملية اتخاذ القرار في الحكومات والشركات والمؤسسات البحثية بطريقة تحويلية مماثلة، يشرح ديفيد تشانغ، عالم الأحياء والذكاء الاصطناعي، هذه الظاهرة الناشئة كنوع جديد من “اليد الخفية”، ليست التي تنسق ما بين السلع المادية، بل التي تنسق الموارد الفكرية وأُطُر اتخاذ القرار من خلال عدد لا يحصى من التفاعلات الفردية للذكاء الاصطناعي.
يقول تشانغ: “مثلما تُحدث اليد الخفية للاقتصاد تنسيقاً نظامياً من خلال أفعال فردية لا تُدرك، يظهر تأثير الذكاء الاصطناعي من ملايين المحادثات التي تشكل معاً أطراً جديدة لعملية اتخاذ القرارات داخل المؤسسات”. ويضيف: “تعمل شبكات الاستشارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي على نشر الأفكار عبر مجالات متنوعة، ما يخلق تأثيرات تنسيقية تمتد إلى ما هو أبعد من أي تفاعل فردي، غالباً دون وعي المشاركين”.
فاستخدام التنفيذيين وصانعي السياسات والباحثين للذكاء الاصطناعي يسهم في توليد رؤى تُغذّي النظام بشكل متكرر، مؤثرة في أنماط التفكير واتخاذ القرارات المستقبلية، وهو ما يخلق تأثيراً قوياً على الشبكة حيث تؤثر الأفكار التي تم تطويرها في سياق معين على قرارات في مجالات مختلفة تماماً، من الرعاية الصحية والتعليم إلى التجارة الدولية، دون وجود سلطة مركزية توجه العملية.وجه التشابه الأساسي بين تشكيل الاقتصاد في بداياته وحقبة الذكاء الاصطناعي يكمن في الدور المركزي لـ التنسيق “غير المركزي“ وتأثير التفاعلات الفردية التي تؤدي إلى ظهور أنظمة معقدة ومنظمة دون وجود سلطة مركزية تتحكم بها، في بدايات الاقتصاد الحديث، كما شرح آدم سميث بمفهوم “اليد الخفية”، كانت قرارات الفلاحين والتجار والصناعيين المستقلة تتفاعل عبر السوق، ما أدى إلى تنظيم فعال للأسواق وتوزيع الموارد رغم عدم وجود تخطيط مركزي، وبالمثل في عصر الذكاء الاصطناعي، تتشكل أنظمة اتخاذ القرار والتنسيق الفكري من خلال ملايين المحادثات والتفاعلات الفردية بين البشر والذكاء الاصطناعي، حيث تُنتج هذه التفاعلات تأثيرات جماعية تنسق المعرفة والأفكار وتؤثر في سياسات وممارسات متعددة بشكل لا مركزي. تشبه هذه الظاهرة الشبكات الفكرية لعصر التنوير، حيث انتشرت الأفكار حول الحوكمة والاقتصاد وحقوق الإنسان عبر المراسلات والمنتديات الفكرية، بنى مفكرون مثل فولتير وجون لوك وآدم سميث آراءهم ومنهجيتهم على اقتباسات عدد لا يحصى من أفكار وطروحات وممارسات لآخرين لم تُسجل أسماؤهم، لكن تأثيرهم الخفي على العلماء والمفكرين أعاد تشكيل الأنظمة السياسية والاقتصادية، الفرق الأساسي اليوم هو السرعة والحجم: حيث استغرقت أفكار عصر التنوير عقوداً أو قروناً للانتشار في المجتمع، تنتشر أفكار الذكاء الاصطناعي خلال أيام أو أسابيع، وتتطور بشكل ديناميكي يشبه المحادثات الإلكترونية. التبعات عميقة، كما يؤكد تشانغ “قد تصبح اليد الخفية للذكاء الاصطناعي واحدة من أهم أنظمة الاستشارات في تاريخ البشرية، تضع بهدوء أسس التحولات المؤسسية التي لا يزال الكثيرون لا يدركونها بالكامل”، وبذلك يتحتم علينا فهم هذه القوة الناشئة والتعامل معها بوعي لضمان الشفافية والاستخدام الأخلاقي والشمولية. فالقوة المتزايدة للذكاء الاصطناعي تضع أمامنا تحدياً أخلاقياً ومسؤولية جماعية على المستوى الدولي، لا يمكننا أن نغفل أن الاستخدام السليم لهذه التقنية يتطلب وضع سياسات أخلاقية واضحة تضمن احترام حقوق الإنسان، وتعزيز الشفافية، ومنع التمييز والتحيز. التعاون الدولي الرقمي هنا ليس خياراً بل ضرورة حتمية، فهو يتيح تبادل المعرفة وتعزيز أفضل الممارسات، ويضمن وضع معايير موحدة تحكم تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي عبر الحدود، من خلال تبني هذه السياسات الأخلاقية وتفعيل التعاون الدولي، يمكننا ضمان أن تكون اليد الخفية للذكاء الاصطناعي قوة إيجابية توجه مستقبلنا نحو تنمية مستدامة وشاملة، تكرّس القيم الإنسانية وتدعم تقدم المجتمعات بشكل متوازن وعادل. ففي هذا المشهد المتغير بسرعة، لم تعد اليد الخفية مجرد استعارة للاقتصاد، بل أصبحت عدسة لفهم كيف يشكّل الذكاء الاصطناعي مستقبل المعرفة البشرية واتخاذ القرار، رابطاً بين عدد لا يُحصى من الأفراد عبر شبكة واسعة لا مركزية من التأثير الذي قد أكون أنا وأنت مشاركين في صياغتها..تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.* إكرام اليعقوب – خبيرة اقتصادية ومالية سعودية، ترأست العديد من الشركات الاستشارية المعنية بصياغة استراتيجيات نمو الأعمال والحوكمة والتواصل المالي.