الاقتصاد العالمي: التوازن بين الحرب والسلم

الاقتصاد العالمي: التوازن بين الحرب والسلم

يمكن القول إن مدى الاستقرار السياسي في المجتمع الدولي ينعكس إلى حد بعيد على حالة الاقتصاد العالمي؛ ومن ثم فإن عدد الحروب في العالم ونوعيتها وشكل الصراعات في العالم، له تأثيرات مباشرة ومتعددة على شكل الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى جهود التنمية الاقتصادية في العالم على نحو خاص، وبالنظر إلى إجمالي الإنفاق العسكري العالمي نجد أنه تجاوز 2.4 تريليون دولار تقريباً في 2024 بنسبة 2.3% تقريباً من الناتج المحلي العالمي، وفقاً لمجلة Financial Times نقلاً عن معهد ستوكهولم لأبحاث السلام.

«تكلفة صناعة الحرب والسلام»

ولذلك فهناك ما يمكن أن نسميه «صناعة السلام» والذي يحتاج إلى تكاليف ضخمة تُمَوَّل على مدار سنوات طويلة في أوقات السلام في أغلب الظن لتشكل ردعاً قوياً يصنع السلام أو لاستخدمها في توقيت محدد، هذا بالإضافة إلى العمل على تقديم أطروحات حول حلول دبلوماسية فاعلة مع تكوين مصالح اقتصادية مشتركة لتحقيق تنمية اقتصادية مؤثرة قد تمنع أي نزاع عسكري مستقبلي.

أما بخصوص صناعة الحروب التي قد تبدأ بخطاب تصاعدي إعلامي مروراً بصناعة أزمات لدى الدولة المستهدفة حتى فرض عقوبات متعددة، وحتى الصراع العسكري في نهاية المطاف، ولكل ذلك تكاليف مدمرة سواء كانت بشكل مباشر والتي تعدد أثرُها؛ حيث يكون هناك خسائر بشرية، وهي الخسائر التي لا تعوض أبداً، وهناك خسائر اقتصادية يمكن قياسها بالأرقام وتشمل الميزانيات الفعلية لتكلفة الحرب من سلاح وذخيرة ودعم لوجستي وملابس وطعام وغيرها، إضافةً إلى تكاليف إعادة الإعمار والبناء بعد انتهاء الحروب، وهناك تكاليف أخرى غير مباشرة تتمثل في ضياع أي فرص محتملة لوجود تنمية اقتصادية سواء في أثناء الحرب أو بعدها، إضافةً إلى الآثار الاجتماعية المدمرة من خلق وضع اجتماعي جديد سواء ارتفاع عدد الأيتام والأرامل وانعكاسات ذلك على سوق العمل.

«تطور شكل الحروب في القرن الحالي»

الحروب أخذت أشكالاً غير تقليدية، بداية من استخدام الطيران في الحروب عام 1911، ثم ظهور «الـكاميـكاز»، وهو مصطلح يطلق على الطيارين الانتحاريين اليابانيين الذين نفذوا بعض الهجمات الجوية الانتحارية خلال الحرب العالمية الثانية، وحتى تطور مفهوم الدفاع الجوي والصواريخ منذ 1950، وحتى الحرب الباردة وما بعدها، وصولا إلى الحرب عن البعد حالياً والتي يمكن القول إنها أصبحت تشكل نموذجاً لحروب المستقبل التي لا تعتمد على الهجمات التقليدية فقط.

«أشكال الحروب الحديثة والاقتصاد»

الحروب الحديثة ظهرت أيضاً في أشكال التدمير الذاتي عن طريق عدة أدوات، وأهمها صناعة الأزمات وخلق الفوضى وتغير الهندسة الاجتماعية للمجتمعات وتدمير الهوية الوطنية، هذا إضافةً إلى سلاح العقوبات الاقتصادية، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضا عقوبات متعددة ومؤثرة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، وهذه العقوبات تؤثر إلى حد بعيد على الحياة اليومية للفرد في هذه الدول، ويكفي فقط -على سبيل المثال- طرد عدة مصارف روسية من نظام SWIFT البنكي العالمي؛ ما يصعب التعاملات البنكية بين روسيا والعالم، والأمر يمتد إلى تجميد الأصول وتعطيل وخنق التجارة وسلاسل الإمداد ومنع الوصول للتكنولوجيا أو الأسواق العالمية من خلال التصدير وحتى الحرمان من المشاركة في الأحداث الرياضية الدولية كالأولمبياد وكأس العالم، كما أن هناك أنواعاً أخرى كالحرب البيولوجية والكميائية وغيرها وحتى الضربات سيبرانية يمكنها إحداث أضرار كبيرة للاقتصاد الوطني والحياة اليومية أو اختراق بيانات معينة كفيروسات الإلكترونية والتي يمكنها تعطيل واختراق المؤسسات، هذا إضافةً إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري والتي تشهد تطوراً كبيراً.ومن ثم يمكن القول إن هذا التطور يؤكد أن الاهتمام بالبحث العلمي هو نواة الاقتصاد العالمي سواء في حالة الحرب أو السلام، وأن البعد الاقتصادي والتمويل من أهم العوامل المؤثرة في قرار الحرب والسلام؛ فاستدامة التمويل في الحروب تعد عاملاً حاسماً بكل تأكيد في نتيجة أي حرب محتملة، وذلك مع عدم إغفال دور شركات السلاح التي تهتم بفتح أسواق جديدة بشكل متواصل مثل أي سلعة تقليدية، وقد بلغ حجم التجارة العالمية في الأسلحة التقليدية نحو 111.6 مليار دولار تقريباً، وهو أعلى مستوى منذ نهاية الحرب الباردة، وذلك وفقاً لمركز تحليل تجارة الأسلحة العالمية (CAWAT) لعام 2024.وبالنظر إلى حالة المجتمع الدولي حالياً بين صناعة الحرب والسلام، وحسب تقرير Global Peace Index لعام 2024، يوجد أكثر من 56 نزاعاً مسلحاً في العالم حتى 2023، وهو عدد كبير للغاية، وقد يعد الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، وفقاً لتقديرات التقرير، منها نحو 20 صراعاً كبيراً بأكثر من 1000 قتيل سنوياً، وأبرز النزاعات أوكرانيا، السودان، اليمن، سوريا، فلسطين، إثيوبيا، وكل هذه النزاعات تؤثر في جودة الحياة والتنمية البشرية والاقتصادية، وتهدد حياة الفرد نفسه، وأن النزاعات في أوكرانيا وغزة كانت المحرّك الرئيسي لتراجع السلام، ووفقاً لتقديرات التقدير أيضاً بلغت تكلفة العنف عام 2023 نحو 19.1 تريليون دولار، وقد صنف التقرير بعض الدول على أنها الدول الأقل سلماً كاليمن والسودان، وسوريا، إسرائيل، مالي، وغيرها، ومن ثم من المنطقي للغاية القول إن في حالة أي حروب محتملة فإن الاقتصاد الوطني هو المستهدف الأول.وبالنظر إلى كل هذه المستجدات وانعاكسها على الشرق الأوسط يمكن القول إن كل ما يحدث في الشرق الأوسط حالياً من تصعيد عسكري به الكثير من الدروس المستفادة من منظور الحروب الحديثة، حيث لا بد من الوقاية بالتأمين المستمر والدوري لكل الاتصالات وشبكات القطاع المصرفي، والبورصة وقواعد البيانات وتأمين خطوط إنتاج مصانع السلع الاستراتيجية والسكك الحديدية والطيران والأمر يمتد إلى الأفكار التي تقدم في الإعلام وحتى وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل جزءاً من وعي المجتمع، وكل ذلك لا بد أن يتم وفقاً للأسس علمية تسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية وصناعة حائط ردع دفاعي يحمي كل المكتسبات الوطنية الاقتصادية.ومن هنا يمكن التنبؤ بشكل الصراعات المستقبلية المحتملة، ومع تغير شكل العالم وظهور متغيرات جديدة وغير مسبوقة، ومن ثم قد ينتج عن ذلك بعض الأزمات المحتملة، مثل التغير المناخي الذي أصبح يهدد الحياة في بعض الدول، وخصوصاً في ظل الزيادة السكانية التي تضغط على الموارد المحدودة، وبالتالي قد نشاهد حروباً من أجل البقاء، ونزاعات يمكن أن يشهدها العالم للمرة الأولى، فحتى الآن -على سبيل المثال- لم تحدث حرب شاملة في التاريخ الحديث بسبب المياه وحدها، لكننا أقرب لذلك من أي وقت مضى، وحتى إن كان يرى البعض أن البحث العلمي قد يقدم حلولاً واقعية وفاعلة لزيادة إنتاجية الزراعة باستخدام أقل كمية ممكنة من المياه.وفي نهاية الأمر لا بد من تفعيل حقيقي لدور المنظمات الدولية، خصوصاً الأمم المتحدة، لفرض صناعة السلام على المجتمع الدولي، سواء بوضع حلول واقعية عادلة لحل النزاعات أو لتمويل صناعة السلام، وبعيداً عن الشكل الحالي الذي لا يضمن إلا مصالح ورؤية الدول الكبرى فقط !تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط، ولا تعكس أو تمثّل -بأي شكل من الأشكال- آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.