الذكاء الاصطناعي ومنافسة الهيمنة: الصين تسعى لتحقيق الحلم الأمريكي

الذكاء الاصطناعي ومنافسة الهيمنة: الصين تسعى لتحقيق الحلم الأمريكي

مع تسارع التحول التكنولوجي العالمي، بات الذكاء الاصطناعي محوراً رئيسياً في التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، إذ يتسابق العملاقان لفرض نفوذهما على مستقبل الاقتصاد العالمي، من خلال التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجالات النماذج اللغوية الكبرى، والتطبيقات الأمنية، والبنية التحتية الرقمية.

تفوق أميركي مدفوع بالقطاع الخاص

وبلغ حجم الاستثمار الخاص في الذكاء الاصطناعي داخل أميركا نحو 109.1 مليار دولار في عام 2024، أي ما يقارب 12 ضعف ما استثمرته الصين في العام نفسه، والذي لم يتجاوز 9.3 مليارات دولار، بحسب مؤشر ستانفورد للذكاء الاصطناعي لعام 2025.
وأسهمت قوانين مثل «قانون الرقائق والعلوم» (CHIPS Act)، الذي خصص 280 مليار دولار لتطوير التكنولوجيا، منها 52 ملياراً لدعم صناعة أشباه الموصلات، في تأمين تفوق الولايات المتحدة في البنية التحتية الحيوية للذكاء الاصطناعي، من حيث القدرة الحسابية والابتكار الصناعي.وعلى صعيد الأداء، أنتجت المؤسسات الأميركية 40 نموذجاً مميزاً للذكاء الاصطناعي خلال عام 2024، مقابل 15 نموذجاً فقط من الصين، ما يعكس استمرار الهيمنة الأميركية في تطوير النماذج.

الصين.. صعود سريع بقيادة الدولة

في المقابل، تسير الصين بخطى ثابتة نحو هدف معلن بأن تصبح «مركز الابتكار العالمي في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030»، وذلك من خلال استراتيجية تقودها الدولة، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية والتطبيقات المدنية والأمنية.وبين عامي 2015 و2025، أنفقت الحكومة الصينية أكثر من 200 مليار دولار على الذكاء الاصطناعي والتقنيات المرتبطة به، وفرضت سياسات صناعية صارمة لدمجه في المدن والقطاعات الحيوية، مثل «المدن الذكية» والمراقبة الأمنية.ومن أبرز محاور القوة الصينية مؤخراً، ظهور نماذج مثل ديب سيك DeepSeek R1، الذي نافس النماذج الأميركية من حيث الأداء، رغم اعتماده على موارد حسابية أقل بكثير. وفي ساحة اختبار شات بوت إيرينا «Chatbot Arena» – التي تديرها منصة LMSYS بالتعاون مع جامعة ستانفورد، تراجع الفارق في الأداء بين أفضل النماذج الأميركية والصينية من 107 نقاط في فبراير شباط 2024 إلى 23 نقطة فقط في الشهر ذاته من عام 2025، ما يعكس تقارباً ملحوظاً في الجودة والفعالية.

فجوة الابتكار مقابل سرعة التطبيق

رغم تفوق أميركا في عدد النماذج وتطورها، فإن الصين تتفوق في الانتشار والتطبيق العملي للذكاء الاصطناعي، فأنظمة التعرف على الوجوه والمراقبة الذكية والروبوتات الذاتية باتت جزءاً من الحياة اليومية في المدن الصينية، بفضل مرونة القوانين في جمع البيانات، وتوافر قاعدة سكانية ضخمة توفر كماً هائلاً من المعلومات لتدريب النماذج.من ناحية أخرى، لا تزال الصين تعتمد جزئياً على تقنيات أشباه الموصلات الغربية، ما يجعلها عرضة للقيود الأميركية على تصدير الرقائق، ورغم سعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر مشاريع محلية، فإن هذه الفجوة التكنولوجية في العتاد لا تزال تمثل نقطة ضعف رئيسية.ووفقاً لمؤشر ستانفورد للذكاء الاصطناعي الصادر لعام 2025، مثلت الصين ما يقرب من 70% من براءات الاختراع العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي في 2023، متفوقة بشكل كاسح على بقية الدول.كما تتصدر الصين أيضاً عدد الأوراق البحثية المنشورة، رغم أن معظم الابتكارات الجذرية ما زالت تصدر من مختبرات أميركية رائدة.هذا التباين يعكس فرقاً جوهرياً في النهج، فبينما تركز أميركا على جودة الأبحاث وحرية التنافس، تعتمد الصين على الحشد الكمي والموارد الحكومية لتحقيق التقدم بأسرع وقت.

تحديات مشتركة وتطلعات مستقبلية

تواجه الدولتان تحديات معقدة، فالنظام الأميركي، رغم انفتاحه، قد يُعرّض الذكاء الاصطناعي لمخاطر الاستخدام التجاري القصير الأجل على حساب الأهداف الاستراتيجية طويلة المدى. أما النظام الصيني، فرغم سرعته يواجه انتقادات عالمية بشأن أخلاقيات البيانات والخصوصية، ويعاني من نقص في حرية الابتكار الفردي.في الوقت ذاته، تتنامى الحاجة إلى أطر عالمية لتنظيم الذكاء الاصطناعي، خاصة مع تزايد الحوادث المرتبطة باستخداماته، وظهور فجوات واضحة في تقييمات السلامة والشفافية، ما دفع منظمات كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تقديم أطر حوكمة تتبنى مبادئ المسؤولية والموثوقية.

السباق مستمر والهيمنة لم تُحسم بعد

يتخطى سباق الذكاء الاصطناعي بين أميركا والصين مجرد التقدم التكنولوجي، ليمس جوهر القوة الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين. ففي حين تقود الولايات المتحدة الابتكار، تتفوق الصين في نشر النماذج واختبارها ميدانياً، والمستقبل القريب سيعتمد على قدرة كل طرف في تحقيق التوازن بين التفوق التقني، والانتشار الواسع، والتنظيم الآمن.في النهاية، من يضع القواعد الأخلاقية والتقنية للذكاء الاصطناعي هو من سيحدد شكل الاقتصاد الرقمي والأمن العالمي لعقود قادمة.