“لا تعتمدوا على البشر في العمل”.. حين تتحول الآلات إلى بدائل للإنسان.

“لا تعتمدوا على البشر في العمل”.. حين تتحول الآلات إلى بدائل للإنسان.

في أحد أيام أبريل الماضية، استيقظ سكان سان فرانسيسكو على مشهد غير مألوف؛ لافتة إعلانية ضخمة في قلب منتزه بايفرونت تعلن بجرأة، “توقفوا عن توظيف البشر… عصر الموظفين الذكيين قد بدأ”، لم تكن مجرد دعاية تسويقية صاخبة، بل كانت صفعة رقمية في وجه كل من لا يزال يعتقد أن وظيفته محصنة من موجة الذكاء الاصطناعي التي تجتاح العالم، الشركة التي تقف وراء هذا الإعلان الجريء تُدعى “أرتيزان”، وقد نجحت في إشعال حوار عالمي حول مستقبل التوظيف والعمل، لكن المفاجأة الأكبر جاءت عندما أعلن الرئيس التنفيذي للشركة استقالته، معلناً أنه سيتم استبداله بوكلاء ذكيين يعملون بالذكاء الاصطناعي.ما كان يبدو كأنه استفزاز بصري سرعان ما تحوّل إلى حقيقة ملموسة، فوفقاً لتقرير صدر عن غولدمان ساكس عام 2025، فإن الذكاء الاصطناعي قد يعرض ما يصل إلى 300 مليون وظيفة بدوام كامل للخطر، مع إمكانية أتمتة ما يقارب نصف عبء العمل فيها، في الوقت ذاته كانت شركة IBM تنفذ تحولاً صامتاً لكنه بالغ الدلالة؛ إلغاء 200 وظيفة من قسم الموارد البشرية، واستبدالها بوكلاء ذكيين يتولون مهام التوظيف، الرد على الاستفسارات، معالجة طلبات الإجازة، وتحديث السجلات—all بدون تدخل بشري يُذكر، نظام AskHR التابع لـIBM أصبح يتعامل مع أكثر من 11 مليون تفاعل سنوياً، قسم الموارد البشرية، الذي كان يوصف بـ”القلعة الأخيرة” للعنصر البشري في الشركات، سقط أمام قوة الخوارزميات.

وفي أماكن أخرى من العالم، بدأ المشهد يتغير بالوتيرة المذهلة نفسها، تقرير مشترك لمعهد MIT وجامعة بوسطن أشار إلى أن قطاع التصنيع في الولايات المتحدة قد يفقد مليوني وظيفة بحلول عام 2025 بسبب الذكاء الاصطناعي، بينما توقعت دراسة من معهد ماكينزي أن نحو 14% من القوى العاملة عالمياً ستضطر لتغيير مهنتها كلياً بحلول 2030، هذه ليست نظريات مستقبلية بعيدة، بل وقائع بدأت فعلاً، بالفعل 14% من العاملين حول العالم تعرضوا لإزاحة وظيفية بسبب الأتمتة، و30% من الموظفين يعبرون اليوم عن خشيتهم من أن تستبدل التكنولوجيا وظائفهم خلال السنوات القليلة المقبلة.
حتى الوظائف التي كانت تُعتبر عصية على الأتمتة -مثل قيادة سيارات الأجرة- لم تسلم، شركة تسلا بدأت فعلياً باختبار خدمة التاكسي الإلكتروني “روبو تاكسي”، حيث تختفي الحاجة إلى سائق تماماً، والنتيجة؟ نماذج اقتصادية جديدة تقوم على التشغيل الذاتي، وتهمّش بشكل متسارع اليد العاملة البشرية في وظائف كانت تقليدية لعقود.ما يضاعف من تعقيد المشهد ليس فقط سرعة التغيير، بل نوعيته، نحن لا نتحدث عن تحسين تدريجي في الإنتاجية، بل عن قفزات نوعية تحدث في وقت قياسي، شركات ناشئة ظهرت حديثاً، مثل “لوفيبل” و”غومولوب”، تسعى للوصول إلى تقييمات بمليارات الدولارات بفرق عمل لا يتجاوز عدد أعضائها عشرة أشخاص، بعض هذه الشركات يستخدم وكلاء ذكاء اصطناعي لاستبدال أقسام كاملة؛ التسويق، الدعم الفني، الموارد البشرية، بل حتى تطوير المنتج.الاستثمارات تؤكد هذا التحول، في عام 2025 ذهب ثلثا رأس المال الجريء في الولايات المتحدة إلى شركات الذكاء الاصطناعي، وهذه الشركات وصلت إلى معالم إيرادية في نصف الوقت الذي استغرقته شركات البرمجيات السحابية سابقاً، بعض التنفيذيين في وادي السيليكون أصبحوا يراهنون علناً على أننا سنشهد أول شركة بمليار دولار يديرها شخص واحد فقط بحلول عام 2026، بمساعدة خوارزميات ذكية تتولى كل المهام التشغيلية.كل هذا يضعنا أمام سؤال جوهري؛ ما مصير الإنسان في سوق العمل؟الجواب لا يكمن في مقاومة الموجة، بل في ركوبها، لا يمكننا مواجهة الذكاء الاصطناعي بالخوف والإنكار، بل بالفهم والتحول، تقرير صادر عن اتحاد القوى العاملة التكنولوجية بمشاركة عدد من عمالقة التكنولوجيا، يشير إلى أن 92% من الأدوار في عالم التكنولوجيا ستتغير، وستتطلب مهارات جديدة كلياً، الأولوية الآن لدى المؤسسات الكبرى هي تدريب موظفيها على الذكاء الاصطناعي، خصوصاً في القطاعات الحساسة مثل الإعلام، الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات.وهنا تظهر الحاجة إلى إعادة التفكير في شكل التعليم نفسه، لم يعد يكفي أن يتخرج الإنسان من الجامعة ويكتفي بما تعلمه فيها، في عصر الذكاء الاصطناعي التعليم لم يعد مرحلة زمنية محددة، بل أصبح عملية مستمرة مدى الحياة، المؤسسات الرائدة حول العالم بدأت في تبني سياسات تدريب متواصلة ومفتوحة، تدمج بين التعلم الرقمي والمهارات التطبيقية، بهدف بناء قوى عاملة مرنة وجاهزة للتعامل مع المتغيرات.والأهم من كل ذلك هو أن العالم بدأ يعترف فعلياً بأن التعليم المستمر ليس ترفاً، بل ضرورة، قبل أيام فقط قفزت أسهم منصة Coursera بنسبة 36% في يوم واحد، بعد إعلانها عن أرباح قياسية، هذه القفزة لم تكن محض صدفة، بل كانت تعبيراً عن موجة متصاعدة من الوعي العالمي بأهمية التعليم المفتوح والمستمر، لقد أصبحت منصات التعلم الرقمي بنية تحتية جديدة لسوق العمل، تماماً كما كانت الجامعات التقليدية في الماضي.نحن نعيش لحظة تاريخية يتحول فيها مفهوم العمل والتعليم جذرياً، المهارات التقنية لم تعد وحدها كافية، في هذا العصر الجديد ستكون المهارات الإنسانية، مثل التفكير النقدي والذكاء العاطفي والقدرة على التكيف، ذات قيمة أعلى من أي وقت مضى.المستقبل لن يكون للذكاء الاصطناعي وحده، ولا للبشر وحدهم، بل لأولئك القادرين على بناء جسر بين الاثنين، عبر التعلم المستمر، والانفتاح على التغيير، والشراكة الذكية بين العقل الإنساني والآلة.