واشنطن وبروكسل: هل هي اتفاقية تجارية أم استسلام من الجانب الأوروبي؟

واشنطن وبروكسل: هل هي اتفاقية تجارية أم استسلام من الجانب الأوروبي؟

في وقت متأخر من مساء الأحد، أعلنت الولايات المتحدة التوصل إلى اتفاق تجاري شامل مع الاتحاد الأوروبي، بعد ماراثون تفاوضي منذ أبريل الماضي، تخلله تهديدات من الرئيس الأميركي دونالد ترامب بزيادة التعريفات الجمركية إن لم يتوصلا إلى اتفاق، وتلميحات أوروبية متواترة من جانب آخر بشأن رسوم انتقامية ضد السلع الأميركية.وجرى الإعلان عن الاتفاق خلال لقاء استمر ساعة كاملة بين ترامب ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في منتجع ترامب الفاخر للغولف غرب إسكتلندا، حيث قال الرئيس الأميركي: «أعتقد أنها أكبر صفقة أُبرمت على الإطلاق، ومن شأنها تعزيز الروابط بين ضفتي الأطلسي بعد سنوات من المعاملة غير العادلة التي تعرض لها المصدرون الأميركيون».

في المقابل، وصفت فون دير لاين ترامب بأنه «مفاوض صعب»، مشددة على أن هذا كان «أفضل ما أمكن التوصل إليه، لدينا الآن اتفاق تجاري بين أكبر اقتصادين في العالم، إنه اتفاق ضخم وسيجلب الاستقرار والقدرة على التنبؤ».
وأنهى هذا الاتفاق التوترات بين واشنطن وبروكسيل بحزمة من الإجراءات والتعهدات التي تعيد رسم ملامح العلاقة التجارية بين الطرفين، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلات حول كلفته على الجانب الأوروبي، وما إذا كان يمثل «اتفاقاً متوازناً» أم «استسلاماً» لضغوط واشنطن.

اتفاق غير متوازنوأثار الاتفاق بحسب صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، موجة من الغضب في عدد من الدول الأعضاء داخل التكتل، إلى جانب قطاعات صناعية رئيسية، حيث اعتبر كثيرون أن الصفقة غير متوازنة، وأن الاتحاد الأوروبي كان ينبغي أن يسعى للحصول على شروط أفضل.وكتب رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، على منصة «إكس»: «إنه ليوم قاتم حين تستسلم تحالفات الشعوب الحرة، التي اجتمعت لتأكيد قيمها المشتركة والدفاع عن مصالحها المشتركة، للخضوع».فيما وصف وزير شؤون التجارة الخارجية الفرنسي، لوران سان مارتان، الاتفاق بـ«غير المتوازن»، مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يواصل الضغط من أجل شروط تجارية جديدة مع الولايات المتحدة، بما يشمل التحرك في قطاع الخدمات واستخدام أدوات الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإكراه الاقتصادي.من جانبه، حذر اتحاد الصناعات الألمانية -أكبر هيئة صناعية في ألمانيا- من أن الاتفاق يرسل إشارة قاتلة لاقتصادي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على حد سواء.واعتبر المحلل الاقتصادي والرئيس التنفيذي لشركة «Neovision»، ريان ليمند، أن الاتفاق بمثابة «خضوع واستسلام واضح للرئيس دونالد ترامب»، وأن بنوده تميل بشدة لصالح واشنطن.وقال ليمند في حديث مع «CNN الاقتصادية»: «الاتفاق حاد وغير طبيعي، إذ يفرض رسوم بنسبة 15% على الصادرات الأوروبية إلى أميركا، مقابل صفر بالمئة على السلع الأميركية المتجهة إلى أوروبا، هذا اختلال كبير في التوازن».وبموجبه الاتفاق ستخضع غالبية السلع الأوروبية التي تدخل السوق الأميركية لتعريفة جمركية موحدة تبلغ 15%، بما في ذلك قطاعات استراتيجية مثل أشباه الموصلات والأدوية، وصناعة السيارات، التي كانت تواجه سابقاً رسوماً بنسبة 27.5%.كما نص الاتفاق على تطبيق نظام «صفر مقابل صفر» في عدد من القطاعات، بما يعني إلغاء الرسوم الجمركية بالكامل على جميع الطائرات ومكوناتها، ومعدات أشباه الموصلات، وبعض المواد الكيميائية، والأدوية، إلى جانب منتجات زراعية وموارد خام.ورغم هذه التنازلات، لم تسلم صادرات الاتحاد الأوروبي من الرسوم المرتفعة؛ إذ ستبقى التعريفة الجمركية على الحديد والنحاس والألومنيوم عند مستوى 50%، على أن تتم مراجعتها لاحقاً واستبدالها بنظام حصص، الذي يتم بموجبه فرض تعريفات جمركية أقل على الواردات وفق كمية أو عدد محدد سنوياً، وحال تجاوز الكمية أو العدد المحدد ترتفع نسبة التعريفات.وطلبت فرنسا وعشر دول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي من بروكسل تقديم تدابير جديدة لحماية صناعة الصلب، مع استمرار المفاوضات بشأن حصص صادرات الصلب إلى الولايات المتحدة، بحسب ما نقلت «فايننشال تايمز».

أفضل ما يمكن التوصل إليهفي المقابل، يدافع قادة أوروبيون عن الاتفاق مع واشنطن، معتبرين أنه «أقل الخيارات سوءاً»، إذ قال مفوض التجارة الأوروبي، ماروس شيفتشوفيتش: «هذا بكل وضوح أفضل اتفاق تمكنا من التوصل إليه في ظل ظروف بالغة الصعوبة».أما المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي يقود أكبر اقتصاد في أوروبا، فقال إن «هذا الاتفاق نجح في تجنب صراع تجاري كان سيوجه ضربة قاسية للاقتصاد الألماني المعتمد على التصدير».وبلغت قيمة التجارة السلعية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خلال عام 2024 نحو 1.013 تريليون دولار، مع تسجيل فائض تجاري لصالح الاتحاد الأوروبي بقيمة 231 مليار دولار.بدوره أعلن رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، تأييده للاتفاق التجاري، لكنه دعا في الوقت نفسه الأوروبيين إلى «ترتيب الصفوف في جميع المجالات، بما في ذلك تطوير العلاقات التجارية مع دول أخرى».وانحاز رئيس وزراء أيرلندا، مايكل مارتن، إلى أغلب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي رحبت بحذر بالاتفاق التجاري مع واشنطن، معتبراً أنه جنّب حرباً تجارية لم تكن في مصلحة أحد، ويفتح المجال أمام إمكانية المزيد من التعاون الاستراتيجي بين الجانبين.مكاسب أميركية وخسائر أوروبيةويشمل الاتفاق التزام أوروبي بشراء معدات عسكرية أميركية، في مقابل استثمارات أوروبية ضخمة داخل الولايات المتحدة تصل إلى 600 مليار دولار، تُضخ على مدى الولاية الثانية لترامب.فضلاً عن بند اعتبره مراقبون الأكثر حساسية، وهو تعهد الاتحاد الأوروبي بتنفيذ مشتريات استراتيجية من السوق الأميركية تصل قيمتها إلى 750 مليار دولار خلال ولاية ترامب، تشمل قطاعات الطاقة مثل النفط والغاز والوقود النووي، إلى جانب الرقائق الإلكترونية.وأوضح ليمند في حديثه مع «CNN الاقتصادية» أن أوروبا ستتكبد تكلفة مرتفعة للغاية نتيجة تحولها لشراء الغاز الأميركي، قائلاً: «الغاز الأميركي يحتاج إلى تسييل وشحن عبر ناقلات بحرية، ثم إعادة تحويله إلى غاز للاستخدام داخل أوروبا، وهي عملية باهظة التكاليف، خاصة إذا قورنت بإمدادات الغاز الروسي التي كانت تصل عبر أنابيب مباشرة».وأضاف: «ما يحدث هو خسارة كبيرة لأوروبا، ومكسب ضخم للولايات المتحدة».وبحسب رويترز، «فإن وفاء الاتحاد الأوروبي بالتزامه بشأن شراء الطاقة الأميركية، يتطلب منه رفع وارداته من هذه السلع الأميركية بنسبة كبيرة بحيث تشكل 85% من إجمالي إنفاقه على الطاقة، وهو أمر غير واقعي».وتوقع محللون أن تتراجع الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة خلال الأعوام القليلة المقبلة ما قد يكون له تداعيات على النمو الاقتصادي للتكتل، إذ أشار ليمند إلى أن «السلع الأوروبية الفاخرة، التي تعاني أصلاً من تراجع في المبيعات داخل الولايات المتحدة ستكون في وضع صعب».وأضاف أن ذلك «سيزيد الضغط على الاقتصاد الأوروبي بشكل مباشر»، خاصة مع «ضعف الدولار الذي سيحد من نمو الصادرات الأوروبية، التي ستكون مرتفعة الأسعار بالنسبة للمستهلك الأميركي».وكشف تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» هذا الأسبوع أن قطاع السلع الفاخرة يشهد تباطؤاً غير معتاد، مع أكبر ضربة يتلقاها منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، مع إعلان شركات أوروبية كبرى مثل «LVMH»، المالكة لعلامات مثل لويس فويتون تراجع مبيعاتها.ولا يتوقف الأمر على السلع الفاخرة، إذ اعتبر الخبراء أن أهم 5 صادرات أوروبية إلى الولايات المتحدة ستتراجع مستقبلاً، وهي: المنتجات الطبية والصيدلانية، والمركبات، والآلات والمعدات الصناعية، والآلات والأجهزة الكهربائية، ومعدات الصناعات المتخصصة. ومع ذلك توقعت مؤسسة «أوكسفورد» للاستشارات الاقتصادية، أن لا «يحدث الاتفاق تغييراً في آفاق النمو الاقتصادي لمنطقة اليورو هذا العام أو العام المقبل»، موضحة أن «الإيجابيات والسلبيات تتوازن إلى حد كبير»، حيث إن الأثر السلبي سيعوض جزئياً بانخفاض مستوى عدم اليقين، وعدم وجود ردود انتقامية من جانب الاتحاد الأوروبي.ورأت أن الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو يسجل نمواً بنسبة 1.1% في عام 2025، و0.8% في عام 2026، وهو ما يتوافق تقريباً مع مستهدف الاتحاد الأوروبي خلال هذا العام، لكنه أقل من مستهدف العام المقبل عند 0.9%.