أغوستين كارستنز: من هو الشخص الذي أنقذ الاقتصاد من أزماته قبل حدوثها؟

من طفل واجه التضخم على متن حافلة إلى أحد أبرز صانعي السياسات النقدية في القرن الحالي.. أغوستين كارستنز يغادر منصبه بعد مسيرة غيّرت وجه المؤسسات المالية العالمية، نقلاً عن صندوق النقد الدولي.
طفولة شكلتها الأسعار.. وبداية فضول اقتصادي
عندما اضطر أغوستين كارستنز في طفولته أن يمشي كيلومترات طويلة في شوارع مكسيكو بعد أن زادت أجرة الحافلة خلال النهار، لم يكن يعلم أن تلك اللحظة ستزرع فيه بذرة الفضول الاقتصادي.
سأل والدته عمّا حدث، فأجابته بكلمة واحدة «التضخم»، ومن هناك، بدأ مسار استثنائي لرجل أصبح اليوم أحد أبرز المفكرين في السياسة النقدية عالمياً.
ما ميّز كارستنز لم يكن فقط جمعه بين الصرامة الأكاديمية والبُعد العملي، بل تبنّيه لعقلية الشركات الناشئة داخل أكثر المؤسسات المالية محافظةً. فقد أطلق «مركز الابتكار» داخل بنك التسويات الدولية، وحوّل المؤسسة البالغة من العمر نحو قرن إلى مساحة اختبار حية للتكنولوجيا المالية، من الذكاء الاصطناعي إلى نظم الدفع العابرة للحدود.
من جامعة شيكاغو إلى قمة البيروقراطية المالية
وحصل على الدكتوراه خلال ثلاث سنوات فقط، في فترة شهدت فيها المكسيك ثلاث عمليات تخفيض لقيمة عملتها في عام واحد.منذ بداية عمله، أدرك كارستنز أن السياسات المالية لا يمكن أن تنتظر الأزمة حتى تتدخل، لذلك، كان أول من تحدّى منهجية صندوق النقد الدولي ودفع نحو تقديم «خطوط ائتمان وقائية» من دون شروط للدول ذات الأسس الاقتصادية القوية، وهي الفكرة التي تحوّلت لاحقاً إلى أداة رئيسية لدى الصندوق بعد الأزمة المالية العالمية.حين أصبح وزيراً للمالية في المكسيك، واجه تداعيات الأزمة العالمية بحذر مالي صارم ونجح في الحفاظ على استقرار الاقتصاد، ووقّع على أول خط ائتمان مرن بقيمة 47 مليار دولار.
ترشّح غير مسبوق قلب توازنات القيادة العالمية في صندوق النقد
بعدها، حاول أن يصبح أول مدير عام غير أوروبي لصندوق النقد، لكنه خسر السباق أمام لاغارد، رغم أن ترشحه شكّل سابقة كسرت هيمنة الزعامة الأوروبية في المؤسسة.شغل منصب نائب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي في الفترة من 2003 إلى 2006، وهو منصب رفيع داخل الصندوق. ثم في 2011، تم ترشيحه لمنصب المدير العام لصندوق النقد الدولي، وكان بذلك أول مرشّح غير أوروبي يحظى بترشيح جدي لهذا المنصب، لكنه خسر السباق لصالح كريستين لاغارد.وشغل منصب وزير المالية في المكسيك، خلال الأزمة المالية العالمية في الفترة من 2006 حتى 2009، وبعد ذلك شغل منصب محافظ البنك المركزي المكسيكي من 2010 حتى 2017. في بنك التسويات، من 2017 حتى 2025، أثبت كارستنز أن التكنولوجيا قادرة على تقريب المصارف المركزية من بعضها، وخلق بنية تحتية مالية رقمية موحدة.
نقلة فكرية.. من التشكيك في العملات الرقمية إلى الإيمان بالتكنولوجيا
قاد أكثر من 40 مشروعاً في مجالات مثل الترميز الرقمي، وتبادل البيانات، وأنظمة الدفع، منها مشروع «نيكسوس» الذي سيربط نظم المدفوعات في خمس دول آسيوية، ومشروع «أغورا» لاختبار التوكنات المالية داخل المنظومة التقليدية.ورغم تشكيكه المبكر في العملات الرقمية، عاد وتبنّى الابتكار كأداة استراتيجية، عيّن الخبير الفرنسي بونوا كويري لقيادة مركز الابتكار، ووصف نفسه لاحقاً بأنه مؤمن بتكنولوجيا «تنمو بسرعة هائلة وتؤثر على الجميع في الوقت ذاته».كشف تحليله الأخير عن التضخم عن إدراكٍ عميق بتغيّر هيكل الاقتصاد العالمي، قال إن البنوك المركزية اعتمدت بشكل مفرط على أدوات صعبة الضبط كالتيسير الكمي، ودعا إلى الاعتماد أكثر على سيناريوهات الضغط بدلاً من الإفراط في التوجيه المسبق للأسواق. واعتبر أن العالم يشهد تحوّلاً بنيوياً لا يُشبه حتى صدمات أسعار النفط في السبعينيات، بل إعادة رسم للعلاقات الاقتصادية الدولية في ضوء الجائحة، والحروب الجيوسياسية، وعودة التضخم. يغادر كارستنز الذي لم يعلن خطوته التالية بعد، منصبه في وقت تُعيد فيه المصارف المركزية حول العالم التفكير بدورها، في ظل تغيرات عميقة تمس كل شيء: من النقود إلى الاستقرار المالي.في النهاية، أثبت كارستنز أن المبدأ الأهم في القيادة الاقتصادية هو التكيّف، ليس فقط مع الأسواق، بل مع الزمن نفسه.