لماذا وافقت اليابان على صفقة تجارية قد تؤذي اقتصادها؟

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط الاقتصادية والسياسية، وقّعت اليابان اتفاقاً تجارياً مع الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وذلك رغم التحذيرات من تداعياته السلبية المحتملة على الاقتصاد الياباني.
فما الذي دفع اليابان إلى قبول اتفاق يبدو –للوهلة الأولى– غير متوازن؟
فحجم التجارة البينية بين اليابان والولايات المتحدة بلغ خلال النصف الأول من عام 2025 نحو 70.34 مليار دولار (10.3 تريليون ين)، بحسب بيانات الجمارك اليابانية، وتُعد الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري لطوكيو بعد الصين، وتشكل صادرات السيارات وحدها نحو 28.3% من إجمالي صادرات اليابان إلى السوق الأميركية.انطلاقاً من هذه الحقائق، يمكن تفسير القرار الياباني بالأسباب التالية:1- تفادي الأسوأالاتفاق جاء قبل أيام فقط من موعد كانت واشنطن تعتزم فيه فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع الواردات اليابانية، وهي خطوة كانت ستوجه ضربة قاسية لقطاع السيارات الياباني، الذي يُعد أحد أعمدة الاقتصاد الوطني ويصدر سنوياً ما قيمته 48 مليار دولار إلى الولايات المتحدة.ووفقاً لتقديرات «مركز أبحاث التجارة الدولية في طوكيو»، فإن تطبيق تلك الرسوم كان سيتسبب بخسارة أكثر من 120 ألف وظيفة، سواء في اليابان أو في مصانعها داخل الولايات الأميركية.وعليه، اعتُبر الاتفاق بمثابة «أخف الضررين»، إذ حافظ على انسيابية التجارة مع الشريك الاقتصادي الأهم لليابان دون الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة.2- الحفاظ على السوق الأميركية مفتوحةالولايات المتحدة هي ثاني أكبر شريك تجاري لليابان بعد الصين، وبلغ حجم التبادل بين البلدين عام 2024 نحو 218 مليار دولار، وبموجب الاتفاق، ضمنت طوكيو استمرار تدفق صادراتها –خاصة من الإلكترونيات الدقيقة وأشباه الموصلات– إلى السوق الأميركية دون قيود جديدة.وتشير البيانات إلى أن أكثر من 70% من صادرات اليابان من هذه الصناعات تتجه إلى الولايات المتحدة، ما يجعل الحفاظ على هذا السوق أولوية قصوى لصناع القرار في طوكيو.3- استثمارات مقابل نفوذأحد أبرز بنود الاتفاق هو تعهد اليابان بضخ استثمارات بقيمة 550 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي خلال السنوات الخمس المقبلة، وتتوزع هذه الاستثمارات على:200 مليار دولار في قطاع أشباه الموصلات (إنشاء مصنعين جديدين في تكساس وأريزونا).150 مليار دولار في مشاريع الطاقة المتجددة.100 مليار دولار في قطاع السيارات الكهربائية والبنية التحتية للشحن.100 مليار دولار في صناديق استثمارية مشتركة لدعم الشركات الناشئة الأميركية.وبطريقة مشابهة لما فعلته بعض دول الخليج خلال زيارة ترامب الأخيرة، تهدف هذه الاستثمارات إلى تهدئة التوترات، وتعزيز الحضور الاقتصادي الياباني داخل السوق الأميركي، وخلق نحو 300 ألف فرصة عمل، ما يمنح طوكيو أوراق ضغط مستقبلية.4- أوضاع سياسية داخلية ضاغطةالاتفاق جاء في توقيت سياسي حرج، حيث فقد حزب رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا أغلبيته في مجلس المستشارين بعد انتخابات يونيو 2025، ما فرض ضغوطاً سياسية وشعبية على الحكومة.وقد أسهم توقيع الاتفاق في استعادة بعض الثقة، خاصة بعد أن وصفه إيشيبا بأنه «اتفاق يحمي المصالح الوطنية ويمنع انهيار العلاقات مع واشنطن»، ووفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة «نيكاي»، أيد 58% من اليابانيين الاتفاق رغم تحفظاتهم، مقابل 34% أبدوا معارضة شديدة له.5- ارتياح في الأسواقكان رد فعل الأسواق المالية إيجابياً فور إعلان الاتفاق؛ فقد ارتفع مؤشر نيكاي 225 بنسبة 3.1% خلال يومين، مسجلاً أعلى وتيرة صعود أسبوعية منذ مارس 2023، كما قفزت أسهم كبرى شركات السيارات: تويوتا (+14.6%)، ميتسوبيشي (+13.2%)، وهوندا (+11.8%).هذا الارتياح يعكس ثقة المستثمرين بقدرة الحكومة على تفادي أزمة تجارية كانت ستلحق ضرراً كبيراً بالشركات اليابانية العاملة في الولايات المتحدة.6- واقعية سياسية واقتصاديةرغم التحديات التي قد تفرضها بنود الاتفاق مستقبلاً، فإن طوكيو اختارت ما يمكن تسميته بـ«الواقعية السياسية»، مفضلةً اتفاقاً صعباً على مواجهة محتملة قد تكون أكثر تكلفة.وفي ظل تنامي السياسات الحمائية عالمياً، يبدو أن اليابان تراهن على البقاء في قلب اللعبة الاقتصادية، ولو على حساب بعض المكاسب قصيرة الأجل.وأخيراً، الاتفاق الياباني الأميركي لا يخلو من التنازلات، لكنه جاء كخيار استراتيجي لحماية المصالح الاقتصادية الحيوية لليابان، فرغم ما يحمله من ضغوط، فإنه وفّر لطوكيو شبكة أمان تجارية واستثمارية قد تكون حاسمة في عالم مضطرب سياسياً واقتصادياً.