حفظ التراث: استراتيجيات تخطيط الخلافة في الشركات العائلية بالشرق الأوسط

لطالما شكّلت الشركات العائلية الدعامة الأساسية للاقتصادات في منطقة الشرق الأوسط، فهذه الشركات تمثل نحو 80% من إجمالي الشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتُسهم بنحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وتوفّر 70% من وظائف القطاع الخاص. ومع ذلك، يشير مركز الابتكار التابع لمركز دبي المالي العالمي إلى أن ربع التركات في الشرق الأوسط من المتوقع أن تنتقل إلى الجيل التالي دون قواعد أو تعليمات محددة مسبقاً، ما يفتح الباب أمام خلافات عائلية واضطرابات اقتصادية سبقت لها سوابق، للأسف.
ومن المتوقع خلال العقد المقبل أن تُنقل أصول تُقدّر بتريليون دولار إلى الجيل التالي، في محطة مفصلية من مسيرة النمو الإقليمي.. لكن التاريخ يدعو إلى الحذر: فقط 30% من الشركات العائلية تنجو حتى الجيل الثاني، وفقط 10% منها تصل إلى الجيل الثالث.ويمكن أن تمثّل عملية نقل هذه الثروات نقطة انطلاق لعصر جديد من النمو إذا أُديرت بالشكل الصحيح، فيما تشكل الانتقالات الفاشلة وصفة جاهزة للصراع والاضطراب وتفويت الفرص.
العامل الحاسم في إنجاح عملية الانتقال؟ هو وجود نهج واضح واستباقي للتخطيط للخلافة.
لماذا يفشل التخطيط للخلافة؟
نظراً لأنّ كل عائلة تختلف عن الأخرى، لا بدّ أن يُصمم التخطيط للخلافة بما يتماشى مع الديناميكيات والقيم والأهداف الخاصة بكل أسرة.ومع ذلك، فإن الأسباب الكامنة وراء فشل هذه العملية تتشابه في كثير من الأحيان، وكما يقول المثل المتداول «من القمصان إلى القمصان في ثلاثة أجيال»، هناك دورة مألوفة من تكوين الثروة وفقدانها تطارد الشركات العائلية حول العالم، ومعالجة هذه المشكلات الجوهرية مبكراً يُمهّد الطريق لعملية انتقال أكثر سلاسة للأجيال القادمة.وغالباً ما تكمن جذور الفشل في مسألة بسيطة: التواصل؛ فالتخطيط للخلافة ليس مجرّد إجراء قانوني أو مالي، بل هو في جوهره عملية إنسانية تتطلب حواراً منفتحاً وصادقاً ومستمراً بين الأجيال.. وغالباً ما تعوق الأعراف الاجتماعية والديناميكيات الداخلية هذا الحوار الصريح بشأن الثروة أو الوفاة أو تغيّر القيادة، وبالنسبة للجيل الوريث فإن التردد في فهم طريقة إدارة الجيل السابق للأعمال قد يكون مدمّراً إذا لم يُقدّروا تماماً الإرث المُلقى على عاتقهم.كما أن التأهيل الفني لا يقل أهمية في إعداد الجيل التالي؛ فيجب أن يكون لدى الورثة المعرفة التشغيلية اللازمة لاتخاذ قرارات مدروسة، بدءاً من فهم تفاصيل الأعمال الأساسية، إلى هياكل الحوكمة والاستثمار، وإدارة المخاطر، والاتجاهات الاقتصادية العالمية، وقد أظهر استطلاع مشترك بين LGT ومنتدى ثروات العائلي أن جميع المستطلعين من الجيل القادم عبّروا عن اهتمامهم بالانضمام إلى الأعمال العائلية، إلا أن الثلث فقط منهم يشاركون فعلياً، ما يكشف عن فجوة محتملة بين التطلعات والتنفيذ، كما أن هناك فرقاً جوهرياً بين العمل كمدير تنفيذي في شركة، وامتلاكها، وفهم هذا الفرق منذ البداية يضمن أن يكون لدى الورثة ليس فقط المهارات الفنية لإدارة الأعمال بنجاح، بل أيضاً تقدير حقيقي للإرث الذي سيحملونه لاحقاً.وتزداد التحديات تعقيداً بفعل اختلاف الأولويات بين الأجيال، فالأجيال المؤسسة في المنطقة غالباً ما بنت ثرواتها من خلال التركيز على نشاط تجاري أساسي، واعتماد استراتيجيات محافظة تركّز على الاستقرار، بينما يميل الجيل الجديد، الذي نشأ في ظل مؤسسات مستقرة، إلى النظر إلى الثروة على أنها منصة للانفتاح العالمي، مثل الاستثمار المؤثر، والعمل الخيري، وتنويع الأصول، وقد يؤدي هذا الاختلاف في الرؤية إلى توترات، إلّا أن الحل يبقى في الحوار بين الأجيال.
ضمان انتقال سلس
مع تطلع العائلات إلى المستقبل، لم يعد وضع خطة شاملة للخلافة خياراً، بل ضرورة، وقد تشمل هذه الخطة مجموعة من الإجراءات، من بينها تأسيس هياكل حوكمة واضحة، وتشجيع التواصل الشفاف، وإشراك الجيل التالي باكراً، سواء في تولي القيادة أو في اختيار مساراتهم الخاصة خارج الأعمال العائلية.وفي المنطقة، باتت المكاتب العائلية الأداة المفضلة لتحقيق هذه الأهداف. وأظهر استطلاعنا المشترك مع «ثروات» أن الدافع الأول لإنشاء مكتب عائلي هو التخطيط للخلافة، يليه تحقيق الفوائد الاقتصادية، وبمجرد تأسيس المكتب العائلي، تصبح الخلافة أولوية تشغيلية يومية، وتسعى العديد من العائلات إلى إشراك الجيلين الثاني والثالث فعلياً في قرارات الاستثمار والحوكمة، لضمان الاستعداد الجيد لمرحلة التوريث والقيادة.كما أن تدوين القيم المشتركة والرؤية والأهداف العائلية في «دستور العائلة» هو ركيزة أساسية لنجاح الإرث على المدى الطويل، ويقوم ثلثا المكاتب العائلية في المنطقة بتوثيق غايات الثروة العائلية ورؤيتها ضمن هذا الدستور، لضمان أن يتم النمو والتنويع مع الحفاظ على مبادئ الاستدامة التاريخية والقيمية.وتُعد هياكل الحوكمة العائلية ضرورية خصوصاً في هذه المرحلة من النمو الإقليمي، حيث تتعزز مكانة الشرق الأوسط كحلقة وصل بين الأسواق الشرقية والغربية، وتترافق التغيّرات الجيلية مع انفتاح غير مسبوق على الفرص الاستثمارية العالمية. وفي هذا السياق، تلجأ العديد من العائلات إلى شركاء دوليين موثوقين يمتلكون فهماً دقيقاً للسياق الإقليمي، لضمان إدارة الثروة بحكمة تستند إلى فهم عالمي وخبرة محلية، لكن ذلك يجب أن يتم مع احترام عميق لخصوصيات الجغرافيا التشغيلية، إذ إن الأساليب النمطية المبنية على «أفضل الممارسات» العالمية قد تغفل عن الفرص والخصوصيات الثقافية في مناطق مثل الشرق الأوسط أو آسيا والمحيط الهادئ.
النظر إلى الوراء للتخطيط للمستقبل
يبقى التخطيط للخلافة عملية مستمرة قادرة على تعزيز المرونة والابتكار والازدهار طويل الأمد، لكنه يحتاج إلى رعاية تتماشى مع تطور العائلة والأعمال معاً، ويمكن لقادة العائلة اليوم أن يؤسسوا لمستقبل مزدهر للأجيال المقبلة من خلال تبنّي نهج استباقي، وحوار منفتح، وحوكمة مبدئية، جنباً إلى جنب مع الجيل القادم.بقلم: سيباستيان غوريس، الرئيس التنفيذي لشركة LGT الشرق الأوسط