من سيُسقط الدولار الأميركي من مكانته؟

من سيُسقط الدولار الأميركي من مكانته؟

ظلّ الدولار الأميركي العملة المهيمنة في التجارة والتمويل العالميين لأكثر من سبعة عقود، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين، قلّما شُكل أي تهديد حقيقي لمكانته؛ فالنظم الاقتصادية الدولية تعمل بسكون كبير، حيث تُفضّل الجهات الفاعلة الرئيسية، من الحكومات إلى البنوك والشركات متعددة الجنسيات، آلياتٍ مجرّبة ومُختبرة لإدارة التجارة والتمويل. وكثيراً ما تُثير عناوين الصحف القلق من أن الدول تسعى إلى بدائل للدولار، أو أن تحالفاً جديداً يُحاول إنشاء عملة منافسة، أو أن الأزمة السياسية الأخيرة في واشنطن ستنهي أخيراً مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية.لكن على الرغم من عقودٍ من النمو الاقتصادي المتغير حول العالم، وفترات الاضطرابات في الأسواق العالمية، والتساؤلات حول مستقبل السياسة الاقتصادية الأميركية، ظلّت هيمنة الدولار راسخة، حتى مع انتخاب ترامب لولاية ثانية وتوليه الرئاسة في يناير 2025، والأهم من ذلك ما كشف عنه في الثاني من أبريل 2025 من هيكل لتعريفات جمركية مرتفعة، حيث أعلن عن فرض رسوم جمركية من مستويين: تعريفة أساسية بنسبة 10% تطبق على الواردات من جميع الدول، وقد تصل إلى 50%.

أعلن الرئيس الأميركي عن رسوم جمركية جديدة باهظة على جميع شركاء الولايات المتحدة التجاريين تقريباً، ما أدى إلى هبوط حاد في أسواق الأسهم الأميركية والعالمية.. ويُعد ذلك في رأيي بمثابة تسليح القوة الاقتصادية الأميركية، حيث فرض ترامب رسوماً على البضائع الواردة من كندا والمكسيك رداً على مجموعة من المشاكل المزعومة.
وأعتقد أن محاولاته الخرقاء وغير المدروسة لتعزيز المزايا الاقتصادية لواشنطن، إلى جانب هجماته المستمرة على سيادة القانون، تُشكّل حتى الآن أكبر تهديد لوضع الدولار ومكانته كعملة احتياطية، وهو -في رأيي- تهديد يفوق أهميته من أي تهديد قد تشكله اليورو أو أي عملة مستقرة مستقبلاً، مثل العملة المقترحة لمجموعة البريكس، كما أن الإهانات والهجمات المستمرة التي يوجهها ترامب لجيروم باول تُضعف الثقة في استقلالية أهم بنك مركزي عالمي، وهو الاحتياطي الفيدرالي، حيث وصف ترامب مؤخراً رئيس البنك المركزي الأميركي بـ”الأحمق”. لكن، حتى الآن، لا يزال وضع الدولار كعملة احتياطية عالمي ثابتاً: من المفهوم أنه يظل وضع الدولار مصدر قلق دوري للمستثمرين، رغم أن مكانته لم تتغير كثيراً منذ عقود.. لقد انخفضت حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية تدريجياً خلال العشرين سنة الماضية، مع تنويع البنوك المركزية لاحتياطياتها، خاصة عبر اليورو منذ إطلاقه في 1999، كما ارتفعت أيضاً مخصصات الاحتياطيات بالعملات الأخرى، مثل الجنيه الإسترليني والدولار الكندي، بشكل طفيف. ومع ذلك، لا يزال الدولار يُمثل نحو 60% من الاحتياطيات العالمية، وهو انخفاض طفيف عن 67% من قبل عقدين تقريباً.ولكي تُعتبر عملة احتياط عالمية فعالة، يجب أن تتمتع بحرية تحويل كاملة، وأن تكون مدعومة بأسواق سندات عميقة وذات سيولة عالية، وذلك لضمان الأمان للبنك المركزي الأجنبي في الأوقات الطارئة.وتُعد سوق سندات الخزانة الأميركية، بسعتها الكبيرة وسيولتها العالية، من أبرز الأدلة على ذلك؛ ولهذا، خلال أزمة كوفيد-19، وسّع الاحتياطي الفيدرالي خطوط المبادلة مع البنوك المركزية الدولية، ما مَنَح الدول التي كانت تعاني من نقص الدولار إمكانية الوصول إليه بسهولة لتمويل التجارة وسداد الديون.ويجب أن تدرك الإدارة الأميركية أن وضع الدولار كعملة احتياطية يمنحها فوائد هائلة، منها انخفاض أسعار الفائدة على ديونها الحكومية، والقدرة على فرض عقوبات صارمة على من يعارض مصالحها. إضافة إلى ذلك، فإن الدول الأخرى تجد أن العملة الأميركية موثوقة وسهلة التحويل، ما يسهل التعامل في الاقتصاد العالمي. لكن في حال تلاشي دور الدولار، من المتوقع أن ترتفع التكاليف، وتصبح التجارة أكثر تعقيداً، وتصل مستويات المعيشة إلى مستوى أقل، على الأقل حتى تظهر عملة احتياطية أخرى قادرة على استبداله.وعلينا ألّا ننسى أن الدولار لم يكن دائماً العملة الاحتياطية العالمية أو العملة المفضلة للتجارة الدولية.. ففي القرن التاسع عشر، كان الجنيه الإسترليني هو العملة التي تمتعت بهذه المكانة، وكان الممولون البريطانيون يشعرون بالأمان في ظل حكمه، كانت أسواق رأس المال في المملكة المتحدة غنية بالسيولة، وكانت الإمبراطورية البريطانية أكبر اقتصاد في العالم واللاعب المحوري في التجارة العالمية. ومع ذلك، بعد حربين عالميتين وعقود من التراجع السياسي والاقتصادي، راقبت لندن تراجع مكانة الجنيه الإسترليني العالمية، لم يكن هناك ما هو حتمي في تراجع الجنيه الإسترليني أو صعود الدولار، تماماً كما لا يوجد ما هو حتمي في زوال الدولار المحتمل اليوم.. فالخيارات، وليس القدر، هي التي تحدد قوة ومكانة العملات الاحتياطية؛ فإذا ما أُطيح بمكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية ، فسيكون ذلك كارثة من صنع إدارة ترامب.هذا ليس دعوة للذعر، بل هو تحذير.. التاريخ عادة ما يُظهر لنا ما قد تكون عليه عواقب الإهمال وسوء الإدارة والحكمة والتقدير.تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.