تحولات الاقتصاد في دول الخليج بعد تصاعد النزاع العسكري في الشرق الأوسط

في خضم التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل، وما رافقه من توترات إقليمية متعددة، تجد اقتصادات الخليج نفسها أمام اختبار مزدوج: الحفاظ على زخم النمو الاقتصادي والاستثمار من جهة، وضمان استقرار أمني يضمن استمرار مسار التحول الاقتصادي المتنوع. هذا التحدي ليس جديداً، لكنه اليوم يكتسب بُعداً أكثر حساسية في ظل تزايد الارتباط بين الأمن الإقليمي والتموضع الاقتصادي العالمي لدول الخليج.خلال السنوات القليلة الماضية، رسّخت دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر، مكانتها كمراكز جاذبة للاستثمارات الدولية، سواء في الطاقة المتجددة أو الذكاء الاصطناعي أو السياحة والثقافة. وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي لدول مجلس التعاون الخليجي سجّل نمواً تجاوز 4.8% عام 2024، ومن المتوقع أن يحقق معدل نمو بنحو 3.5% عام 2025، مدعوماً بإصلاحات سوق العمل، وتحسين بيئة الاستثمار، وتطور البنية التحتية الرقمية، كما تشير تقديرات الربع الأول من 2025 إلى أن الاقتصاد السعودي نما بنسبة 3.4%، بينما يتوقع صندوق النقد أن يستقر النمو السنوي عند 3% بحلول نهاية العام.
أمّا الإمارات، فمن المتوقع أن تسجّل نمواً اقتصادياً بحدود 4.0% في 2025، مع استمرار تفوق القطاع غير النفطي الذي يمثّل أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومع ذلك، فإن التصعيد العسكري يعيد إلى الواجهة معضلة طالما أرّقت هذه الاقتصادات: كيف يمكن تحقيق قفزات تنموية نوعية في محيط إقليمي غير مستقر؟ وتشير البيانات الأولية من أسواق المال خلال الربع الثاني من 2025 إلى أن بعض رؤوس الأموال العابرة بدأت تُعيد تقييم مراكزها الاستثمارية، خصوصاً في قطاعات الأسهم والتكنولوجيا، نتيجة المخاوف من تطورات جيوسياسية غير محسوبة. غير أن اللافت هو صمود المؤشرات الأساسية في كلٍّ من سوق أبوظبي المالي وتداول السعودية، ما يعكس قوة المؤسسات المالية الوطنية وثقة المستثمرين في قدرة هذه الدول على احتواء الأزمات.لم تعد أدوات الردع العسكرية الوسيلة الوحيدة التي تلجأ إليها الدول الخليجية لمواجهة الاضطرابات الإقليمية، بل أصبح الاقتصاد نفسه، وبأدواته المالية والاستثمارية، جزءاً من استراتيجية الاستقرار. فالإمارات مثلاً تستخدم تنوع شراكاتها التجارية واستثماراتها الاستراتيجية في آسيا وأوروبا لتعزيز قدرتها على امتصاص الصدمات. في المقابل، توظّف السعودية فوائضها المالية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط في 2022 و2023 ضمن خططها الاستثمارية في مشاريع «رؤية 2030»، بما يسهم في بناء اقتصاد متنوع ومرن. ويُظهر مؤشر الأداء اللوجستي للبنك الدولي لعام 2024 تقدم الإمارات إلى المرتبة العاشرة عالمياً، فيما تقدمت السعودية إلى المرتبة الثانية والثلاثين، بعد قفزة لافتة بأكثر من 17 مرتبة مقارنة بعام 2021، مدفوعة باستراتيجية وطنية لتعزيز قطاع النقل والخدمات اللوجستية.في مواجهة التحديات المتعددة التي تفرضها البيئة الجيوسياسية، أثبتت دول الخليج براعة دبلوماسية فريدة تقوم على التوازن والفاعلية. هذه الدبلوماسية لم تقتصر على تبنّي مواقف حيادية أو الدعوة للتهدئة، بل أصبحت أداة عملية لإدارة المخاطر الاقتصادية المحتملة. فعند حديث المحللين عن احتمالات إغلاق مضيق هرمز، الشريان الحيوي لتجارة النفط، طوّرت دول الخليج بدائل لوجستية وموانئ استراتيجية تقلل الاعتماد على هذا الممر الحيوي. أمّا في ما يتعلق بتقلبات أسعار النفط، فقد شاركت دول الخليج بفاعلية في تحالف «أوبك+» لإعادة تشكيل توازنات السوق، كما لجأت إلى أدوات التحوط المالي، واستثمرت بقوة في الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر. وقد خصّصت السعودية أكثر من 40 مليار دولار حتى عام 2025 لمشروعات الطاقة النظيفة، فيما أطلقت الإمارات «شراكة المناخ» مع الولايات المتحدة باستثمارات تتجاوز 100 مليار دولار حتى عام 2035.التحولات الأخيرة أظهرت أن الاقتصاد الخليجي لم يعد فقط موضوعاً للداخل، بل أصبح أداة دبلوماسية نشطة. ففي مواجهة التوتر الإيراني–الإسرائيلي، حرصت العواصم الخليجية على إرسال رسائل مزدوجة: دعم استقرار المنطقة والانفتاح على جميع الأطراف. ويظهر هذا النهج في الوساطة الهادئة للحكمة الخليجية في احتواء تداعيات التصعيد على أسواق النفط العالمية، كما تعززت حصة الاستثمارات الخليجية في أوروبا لتتجاوز 135 مليار دولار بنهاية عام 2024، ما يعكس اتساع الدور الاقتصادي لدول الخليج في إعادة تشكيل الخريطة المالية الأوروبية.في ظل الاستنزاف المتزايد الذي يفرضه الصراعان في أوكرانيا وغزة، وما تبعه مؤخراً من تصعيد بين طهران وتل أبيب، باتت العديد من الاقتصادات تبحث عن مسارات جديدة أكثر أماناً وحياداً لتأمين مصالحها التجارية والطاقة والتكنولوجيا. وهنا، يظهر الخليج العربي ليس فقط ملاذاً جيوسياسياً، بل بوابة اقتصادية متكاملة نحو آسيا وإفريقيا وأوروبا. هذا التموضع المتقدم لا ينبع من الجغرافيا فقط، بل من قدرة هذه الدول على تقديم بدائل استراتيجية في الطاقة والتصنيع واللوجستيات، إضافة إلى تبنيها لتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، ودبلوماسية تكنولوجية باتت تشكّل جزءًا أساسيًا من سياستها الخارجية.ورغم التحديات الجيوسياسية المستمرة، تواصل دول الخليج المضي قدماً في مشاريع التنمية والتحول الاقتصادي دون انقطاع. فالمشهد الداخلي لدول مثل الإمارات والسعودية والبحرين يشهد طفرة في إطلاق المناطق الاقتصادية الخاصة، وتسريع مشاريع البنية التحتية المستدامة، وتكثيف الاستثمارات في الاقتصاد الرقمي والتعليم العالي والتكنولوجيا المتقدمة. ويعكس ذلك قناعة عميقة لدى صُنّاع القرار بأن الاستقرار لا يتحقق فقط من خلال الدفاع والأمن، بل أيضاً عبر تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة، وخلق فرص نوعية للمواطنين والمقيمين، وتعزيز المكانة التنافسية في الأسواق العالمية. هذه الانشغالات التنموية لم تتراجع تحت ضغط الأزمات، بل تحوّلت إلى مصدر قوة ناعمة يزيد من ثقة الشركاء الدوليين في المنطقة كمركز مستقر وجاذب لمواجهة اللايقين.وفي ظل هذه الظروف، تبرز الحاجة إلى ترسيخ الاستثمار في البنية التحتية الأمنية والرقمية لضمان استمرارية الأعمال خلال فترات التوتر الجيوسياسي، كما يُعدّ تنويع الشراكات الاقتصادية، خاصة مع دول الجنوب العالمي، أمراً حاسماً لتقليل الاعتماد على الأسواق التقليدية، ومن الضروري كذلك تطوير أدوات تأمين سلاسل الإمداد من خلال الاستثمار في الممرات البديلة والمناطق الاقتصادية المتقدمة، مع إطلاق مبادرات دبلوماسية اقتصادية على مستوى خليجي مشترك تعزّز موقع المنطقة كمركز استقرار. ولا يقل أهمية عن ذلك خلق حوافز متقدمة للقطاع الخاص المحلي والدولي عبر تشريعات مرنة تدعم الابتكار والتحول الرقمي والنمو الأخضر.تشير تجربة العقد الأخير إلى أن الاقتصاد الخليجي أصبح جزءاً من معادلة الردع والاستقرار الإقليمي. ففي حين تستمر التوترات الجيوسياسية، بات الرهان الأكبر لدول الخليج يكمن في تعزيز مكانتها كقوى اقتصادية تمتلك أدوات ناعمة تؤثّر في الأسواق الدولية، لا تقل فاعلية عن النفوذ التقليدي. وإذا ما استمرت هذه الدول في تعزيز شراكاتها، وتنويع أدواتها المالية، وبناء اقتصادات معرفية ومبنية على الابتكار، فإنها ستكون أكثر قدرة على تحويل الأزمات إلى فرص، وترسيخ دورها كمحور استقرار اقتصادي في عالم مضطرب. تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.