الدولار السياحي يعزز الاقتصاد: دراسات حالة من مصر وتايلاند

في ظل الضغوط المتراكمة التي واجهتها اقتصادات الأسواق الناشئة جرّاء دورة التشديد النقدي العالمية، وتباطؤ تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية المباشرة، برز قطاع السياحة في النصف الأول من عام 2025 كرافعة استثنائية لاقتصادات الدول النامية التي تُعاني من فجوات تمويلية واختلالات في ميزان المدفوعات.وبينما تراجعت مرونة عدد من الاقتصادات النامية، مثل المغرب، سريلانكا، وتونس، في تحقيق قفزات سريعة عبر قطاع السياحة، نجحت تايلاند ومصر في تحويل «الدولار السياحي» إلى محرّك نقدي حقيقي أسهم في دعم العملات المحلية، وتحقيق فوائض نسبية في ميزان الحساب الجاري؛ ما يعكس نموذجاً قابلاً للدراسة لإدارة الأزمات عبر قطاع الخدمات الدولية.
وقد تصدّرت تايلاند المشهد الآسيوي، رغم التحديات المرتبطة بانخفاض عدد الزوار من الصين، بينما برزت مصر كقصة نجاح سياحي صاعدة في منطقة الشرق الأوسط، بدعم من توسّع البنية التحتية والمشاريع الكبرى كالمتحف المصري الكبير، إضافة إلى تغيّرات في سياسة سعر الصرف عززت جاذبية السوق للسياحة الوافد.
تايلاند.. تراجع الأعداد واستمرار الإيرادات
شهد النصف الأول من عام 2025 تراجعاً في عدد السياح الوافدين إلى تايلاند، فقد استقبلت تايلاند في النصف الأول من 2025 نحو 17.5 مليون سائح دولي، مقارنة بـ13.7 مليون سائح في النصف الأول من 2024، بنسبة نمو بلغت 27.7%، حسب الهيئة التايلاندية للسياحة.
تقترب هذه الأرقام من ذروة ما قبل الجائحة، حيث بلغ عدد السياح نحو 19.7 مليون في النصف الأول من 2019.كما سجلت الإيرادات السياحية 25.3 مليار دولار في النصف الأول من 2025، ارتفاعاً من 19.8 مليار دولار في الفترة المماثلة من 2024، أي بنمو بلغ 27.8%.ساعد هذا الزخم في تعزيز أداء البات التايلاندي، الذي استعاد جزءاً من خسائره وبلغ متوسط سعره في يونيو حزيران 2025 نحو 35.1 بات/دولار، مقارنة بـ36.9 بات/دولار في منتصف 2024.ووفق تقرير صادر عن بنك تايلاند المركزي، فإن ارتفاع الإيرادات السياحية شكّل نحو 30% من إجمالي تدفقات العملات الأجنبية إلى البلاد في الربع الثاني من 2025.وقد أدى ذلك إلى صعوبة تحقيق هدف 35.5 مليون زائر للعام، بعد أن سجلت تايلاند 35.5 مليون زائر في 2023، ورغم هذا التراجع في الأعداد، بقيت إيرادات السياحة قوية، فقد استقبلت تايلاند أكثر من 16 مليون سائح في النصف الأول، محققة نحو 743.6 مليار بات من عائدات السياحة. وتؤكد هذه الأرقام تعافياً صحياً في إنفاق السائح الأجنبي، لا سيما من الأسواق الناشئة الكبرى كالشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، رغم التحديات المتمثلة في تراجع السياحة الصينية التقليدية. رافق التعافي الجزئي لقطاع السياحة قوة متزايدة في العملة التايلاندية، فقد ارتفع البات التايلاندي بنحو 6% مقابل الدولار في النصف الأول من 2025، إذ انخفض سعر الصرف من نحو 34.3 بات في بداية العام إلى نحو 32.4 بات للدولار منتصف يوليو تموز.ويعزى ذلك جزئياً إلى الفوائض الخارجية القوية، منها فوائض الحساب الجاري المحققة بدعم السياحة المتعافية والصادرات، إلى جانب اهتمام المستثمرين بأسواق الدين التايلاندية. تسهم إيرادات السياحة بالدولار في تعزيز الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي، ما يخفف من الضغوط على البات ويعزز قوته النسبيّة خلال 2025.
مصر.. انتعاش سياحي مدعوم بالدولار
أظهرت إحصائيات النصف الأول من 2025 تعافياً غير مسبوق لقطاع السياحة المصري، فقد استقبلت مصر نحو 8.7 مليون سائح خلال الـ6 أشهر الأولى من 2025، بزيادة تقارب 24% على أساس سنوي، بعد أن كانت قد استقبلت نحو 7 ملايين خلال الفترة نفسها من 2024.وسجّل الربع الأول من 2025 وحده 3.9 مليون سائح، بزيادة 25% على الربع الأول 2024، وتشير هذه البيانات الرسمية إلى أن مصر في طريقها لتحقيق رقم قياسي جديد هذا العام، مع توقعات بأن يتجاوز عدد الوافدين 18 مليون سائح بنهاية 2025، مقابل الرقم القياسي السابق 14.9 مليون عام 2024.وقد دعم هذا الانتعاش توسّع شبكة الطيران الدولية وزيادة الطاقة الفندقية، إضافة إلى مشروعات سياحية كبرى مثل المتحف المصري الكبير ومناطق سياحية جديدة.وتسعى مصر إلى زيادة عدد السياح إلى 30 مليون سائح سنوياً، ارتفاعاً من 15 مليون، بحلول عام 2028.وتشير البيانات إلى أن منتجعات البحر الأحمر ورحلات النيل كانت من بين الوجهات الأبرز في استقطاب الزوار خلال الربع الأول من عام 2025، إذ سجلت هذه المناطق نمواً في عدد الزوار بنحو 25%.
السياحة كمصدر ريعي.. هل نحن أمام نسخة جديدة من “المرض الهولندي”؟
رغم أن عائدات السياحة أسهمت بوضوح في دعم العملات المحلية في كل من مصر وتايلاند خلال النصف الأول من عام 2025، فإن الاعتماد المتزايد على هذا القطاع كمصدر رئيسي للدولار الأجنبي يثير تساؤلات عن طبيعة الاقتصاد الريعي الذي باتت بعض الدول تميل إليه.فالاقتصاد الريعي الذي يعتمد على مصدر خارجي واحد أو عدد محدود من مصادر النقد الأجنبي، كالنفط أو السياحة أو التحويلات، يحمل في طياته مخاطر هيكلية تتمثل في ضعف التنوع الاقتصادي وتقلب الإيرادات وفقاً للظروف الدولية.وفي هذا السياق، قد تكون السياحة أشبه بـ«نفط ناعم» (Soft Oil)، تعزز من تدفقات النقد الأجنبي وقت الرواج، لكنها لا تضمن الاستقرار الدائم.الأخطر من ذلك، هو إمكانية حدوث ما يُعرف بالمرض الهولندي، وهي الظاهرة التي تحدث عندما تؤدي تدفقات العملة الصعبة من قطاع ريعي إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية، ما يُضعف القدرة التنافسية للقطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة. وقد يُهدد هذا السيناريو بتآكل القاعدة الإنتاجية في البلدان النامية، إذا لم تُستخدم عائدات السياحة بحكمة لإعادة هيكلة الاقتصاد وتنمية قطاعات القيمة المضافة.يرى محللون من كي كي بي ريسرش KKP Research أن القوة المستمرة في البات التايلاندي وارتفاع تدفقات العملة الصعبة، بما فيها السياحية، قد تدفع البلاد نحو آثار مماثلة لـ«المرض الهولندي». فقد يُضعف البات قدرة قطاع التصدير والصناعة، كما حدث فعلياً خلال الفترة من 2015 حتى 2019 حين رفعت السياحة من قيمة العملة دون دعم كافٍ للقطاع الصناعي.رغم الأهمية الاقتصادية للسياحة التي تمثل نحو 12- 20% من الناتج المحلي الإجمالي وتوفر وظائف لنحو 10 ملايين شخص في تايلاند، خلصت دراسات مثل تلك التي أعدّتها جامعة لوند Lund University في 2008 إلى أن الأثر الصناعي السلبي المطلوب من نظرية المرض الهولندي Dutch Disease لم يظهر عملياً، لأن الاقتصاد التايلاندي كان متنوعاً وصناعيته مساهمة رئيسية في الناتج القوميمع ذلك، يُحذَّر حالياً من استمرار ارتفاع البات وتأثيره على مصادر التصدير، خاصة إذا لم تُوظَّف عائدات السياحة في تنمية القطاعات الإنتاجية ومكافحة التركز الاقتصادي في بعض المناطق. بالنظر للاقتصاد المصري، فقد يعتمد الاقتصاد المصري بشكل كبير على دخل تحويلات المصريين بالخارج والسياحة، ففي عام 2024، أسهمت السياحة بـ14.1 مليار دولار، متجاوزة إيرادات قناة السويس، وبنسبة تقدر بـ10- 15% من الناتج المحلي الإجمالي وفق تقديرات البنك الدولي.يبرز هنا خطر الاقتصاد الريعي، إذ تقود السياحة أو التحويلات تدفقات نقدية هائلة ترفع قيمة العملة المحلية (الجنيه)، ما يضعف حوافز التصدير والتصنيع داخلياً، ما يجعل الاقتصاد عرضة لتقلبات سياسات السياحة أو قرارات الاستثمار في مشاريع سياحية بيئية أو غير مستدامة.تشير التقارير إلى أن الحكومة المصرية توسّع استثمار السياحة في المناطق الطبيعية بما في ذلك داخل المنتزهات الوطنية، ما أدى إلى انتقادات بيئية وسؤال حول استدامة هذا النمو السياحي إذا لم يكن مرتبطاً بخطط تنويع اقتصادي حقيقية.باختصار، تُظهر التجربتان المصرية والتايلاندية خلال النصف الأول من عام 2025 أن قطاع السياحة يمكن أن يتحول من نشاط خدمي إلى ركيزة نقدية واقتصادية رئيسية، قادرة على تخفيف أزمات العملة وسد فجوات التمويل في الاقتصادات النامية.ومع ذلك، فإن الاعتماد الزائد على هذا القطاع يطرح تساؤلات حول استدامة النمو الاقتصادي ومخاطر الانزلاق نحو نموذج «الاقتصاد الريعي» الذي يعتمد على مصدر واحد أو محدود للنقد الأجنبي دون تعزيز البنية الإنتاجية.لذلك، من الضروري أن يتم ربط العوائد السياحية بسياسات تدعم القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة، وتقليل تسرب الإيرادات عبر دعم المحتوى المحلي.كما أنه يقترح التوجه إلى سياسة نقدية مرنة تستخدم فائض العملة الأجنبية لتعزيز التحول الاقتصادي بدلاً من الاكتفاء بتحقيق استقرار مؤقت.وأخيراً، من المهم دمج البُعد البيئي في التخطيط السياحي لضمان استمرارية القطاع وعدم تحوّل العوائد الحالية إلى أعباء مستقبلية.