قمة منظمة شنغهاي: نحو نظام اقتصادي متنوع الأقطاب

قمة منظمة شنغهاي: نحو نظام اقتصادي متنوع الأقطاب

د.أيمن عمر/ أكاديمي وباحث اقتصادي

شهدت العلاقات الدولية في العقد الأخير تغييرات جذرية فرضتها التحولات السياسية والاقتصادية المتسارعة، ما دفع بالعديد من التكتلات الإقليمية إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، لا سيما في المجالات الاقتصادية. في هذا الإطار، تأتي قمة منظمة شنغهاي للتعاون لعام 2025 في مدينة تيانجين الصينية كحدث محوري يعكس ديناميكية جديدة في صياغة موازين القوى الاقتصادية العالمية. فالمنظمة تسعى لتوسيع دورها من مجرد تكتل أمني إلى منصّة اقتصادية متكاملة تعزز التعاون التجاري والتنمية المستدامة بين أعضائها. تُعقد هذه القمة في ظل مشهد دولي معقّد يشهد تغيّرات كبيرة على الصعيد الاقتصادي والسياسي، وفي الوقت نفسه، تتصاعد التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، ما يزيد من حدة الانقسامات ويعزز الحاجة إلى تكتلات إقليمية قادرة على توفير بدائل فعالة للنظام الاقتصادي العالمي القائم.

 

 

الحجم الاقتصادي لمنظمة شنغهاي
تُعدّ منظمة شنغهاي للتعاون أحد أكبر التكتلات الإقليمية من حيث عدد السكان والمساحة الجغرافية والناتج المحلي الإجمالي التراكمي، وتسعى المنظمة إلى لعب دور اقتصادي أكثر تأثيراً، بعيداً عن أدوارها الأمنية التقليدية. فوفقاً للبيانات المتوفرة، يبلغ عدد سكان الدول الأعضاء في المنظمة ما يقارب نحو 3.46  مليارات نسمة، أي ما يعادل42.02 % من سكان العالم، وتشمل هذه الدول: الصين، روسيا، الهند، باكستان، إيران، كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، وبيلاروسيا. تغطّي دول المنظمة مساحة جغرافية واسعة تُقدّر بنحو 36.11 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل قرابة 24% من اليابسة الصالحة للسكن على سطح الأرض. هذا الامتداد الجغرافي يمنح المنظمة ميزة استراتيجية كبيرة، خصوصاً في مجالات التجارة والطاقة والنقل العابر للحدود. أما من حيث المؤشرات الاقتصادية، فيُقدّر الناتج المحلي الإجمالي الاسمي التراكمي للدول الأعضاء بما يتراوح بين 24.59 تريليون دولار سنوياً. وبهذه القيمة، تتفوق المنظمة على تكتلات اقتصادية كبرى مثل الاتحاد الأوروبي، وتشكل ما يقارب 23.16% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وفقًا لمعايير الناتج الاسمي. تشير هذه الأرقام إلى أن منظمة شنغهاي ليست فقط تكتّلًا أمنياً أو سياسياً، بل تمثّل أيضاً كياناً اقتصادياً عالمياً صاعداً، يمتلك إمكانات ديمغرافية وإنتاجية هائلة يمكن أن تسهم بشكل كبير في تشكيل النظام الاقتصادي العالمي خلال العقود القادمة.

المندرجات الاقتصادية الأساسية للقمة
1- تأسيس بنك التنمية التابع للمنظمة
أعلنت الصين خلال القمة دعمها لإنشاء بنك تنمية مخصص لدول منظمة شنغهاي، يتولّى تمويل مشروعات البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة. وتتمثّل أهمية هذا البنك في تقديم بدائل تمويلية مرنة للدول الأعضاء بعيداً عن شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كما يتوقّع أن يركّز على تمويل المشاريع التي تعزز الترابط الإقليمي مثل السكك الحديدية، الموانئ، والطاقة العابرة للحدود. من الناحية الاقتصادية، يُتوقع أن يخفف هذا البنك من فجوات التمويل في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، ويسهم في تسريع التنمية الإقليمية. لكنه في المقابل يثير تساؤلات حول مدى استقلاليته عن التأثير الصيني، خاصة في ظل الهيمنة المالية والتكنولوجية المتزايدة لبكين.

2- التوسع في استخدام العملات المحلية
طرحت بعض الدول الأعضاء مقترح توسيع استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري والتسويات المالية، كخطوة نحو تقليل الاعتماد على الدولار. هذه الخطوة، إن طُبّقت بفاعلية، ستسهم في تقليل مخاطر تقلبات سعر الصرف المرتبطة بالدولار، كما قد تعزز السيادة المالية للدول النامية. مع ذلك، تواجه هذه المبادرة تحديات هيكلية كبيرة، من أبرزها ضعف الأسواق المالية المحلية لدول المنظمة، وتذبذب أسعار صرف عملاتها الوطنية، وغياب آليات موحدة لتسوية المدفوعات.

3- ممرات التجارة والنقل الإقليمي
شهدت القمة تأكيداً على أهمية مشاريع البنية التحتية العابرة للحدود، مثل “الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى”، الذي يُعد ركيزة لربط الدول الأعضاء بالموانئ البحرية عبر السكك الحديدية وشبكات الطرق. يشكّل هذا التوسع في الربط الإقليمي عنصراً محفزاً للتكامل الاقتصادي، لكنه يتطّلب تنسيقاً جمركياً ومؤسّسياً عالياً لضمان فعاليته. كما أن هشاشة الأمن في بعض المناطق قد تؤثّر على استدامة فعّالية هكذا ممرات.

4- منصّة التعاون في مجال الطاقة
أطلقت منظمة شنغهاي للتعاون منصّة التعاون الطاقي كإطار مشترك يهدف إلى تنسيق جهود الدول الأعضاء في مجالات التنقيب والإنتاج، ونقل الطاقة، وتعزيز الاستثمار في الطاقة المتجددة. تسعى المنصّة إلى دعم المشاريع العابرة للحدود، مثل خطوط أنابيب النفط والغاز والمشروعات الكهربائية المشتركة، بالإضافة إلى تطوير آليات لتبادل المعلومات والخبرات حول أمن الطاقة وإدارة الأزمات، ما يعزز التكامل الإقليمي ويقوي من استقرار الإمدادات. كما تركّز المنصّة على دعم التحول إلى الطاقة النظيفة والاستثمار في التقنيات المتجددة لمواجهة التحديات البيئية العالمية. ورغم هذه الأهداف الطموحة، تواجه المنصة عدة تحديات تضعف من فاعليتها، من أبرز هذه التحديات التفاوت الكبير في القدرات التقنية والاقتصادية بين الدول الأعضاء، ما يعرقل تنفيذ المشاريع المشتركة ويؤخر تحقيق التكامل المطلوب. كما تلعب الضغوط الجيوسياسية بين القوى الكبرى داخل المنظمة دورًا في تعقيد التنسيق وصنع القرار المشترك، بينما يعتمد التمويل بشكل كبير على دعم الدول الكبرى، الأمر الذي قد يؤثر على استقلالية المشاريع.

الأبعاد الاقتصادية للقمة
1- إعادة هيكلة النظام المالي العالمي
تشير مبادرات القمة إلى مساعٍ واضحة لتقويض المركزية الغربية في النظام المالي الدولي. إذ تسعى دول المنظمة من خلال إنشاء مؤسسات تمويل بديلة، وتوسيع التعاون بالعملات المحلية، وتطوير نظم دفع إقليمية، إلى بناء شبكة مالية موازية تضمن استقلال القرار الاقتصادي. غير أن فعالية هذه الشبكة ستظل رهينة بقدرتها على مواجهة التحديات التقنية والمؤسسية، خصوصاً ما يتعلق بثقة المستثمرين، وشفافية السياسات النقدية والمالية في الدول الأعضاء.

2- تعزيز التكامل الإقليمي وتقليص الفجوات الاقتصادية
من خلال التعاون في مجالات الطاقة، النقل، والتكنولوجيا، تسعى المنظمة إلى خلق بيئة اقتصادية متكاملة لتقليص الفجوات بين الدول المتقدمة والنامية ضمن المنظمة، وتوفير فرص عمل، وتعزيز الإنتاجية. لكن غياب اتفاقيات تجارية ملزمة أو سوق مشتركة يشكل عائقاً أمام التقدم نحو تكامل حقيقي، كما أن العلاقات الثنائية المتوترة، كالتي بين الصين والهند، قد تحدّ من عمق هذا التعاون.

3- صعود الصين كمركز ثقل اقتصادي
من خلال دعمها المالي والسياسي للمبادرات الاقتصادية، ترسّخ الصين مكانتها كمركز ثقل في منظمة شنغهاي. وقد يعزز ذلك من قدرتها على توجيه أجندة المنظمة الاقتصادية، ما قد يُفسّر كجزء من استراتيجيتها لبناء نظام عالمي موازٍ يخدم مصالحها الجيو- اقتصادية. لكن هذا التوجّه قد يثير تحفظّات لدى بعض الدول الأعضاء، التي قد ترى في هذا النفوذ تهديداً لسيادتها الاقتصادية، ويؤدي إلى تباين في التوجهات داخل المنظمة نفسها.

الخاتمة
جاءت قمة منظمة شنغهاي للتعاون في 2025 كخطوة مهمة نحو إعادة بناء النظام الاقتصادي العالمي على أسس أكثر تعددية وتكاملًا. وبالرغم من طموحات القمة والمبادرات التي أُطلقت، فإن نجاحها سيعتمد على مدى التزام الدول الأعضاء بتعزيز التنسيق، وضمان العدالة في توزيع المنافع، والحد من تغوّل النفوذ الأحادي داخل المنظمة. في الوقت ذاته، يشكّل هذا التحول فرصة حقيقية للدول النامية لإعادة تعريف علاقتها بالتمويل العالمي، وبناء نماذج تنمية بديلة أكثر تكيّفاً مع خصوصياتها الاقتصادية والاجتماعية.