خطاب طائفي ومذهبي صريح بلا تزييف

لم يعد اللبنانيون يتحفظون عن إبداء مشاعرهم العدائية حيال بعضهم بعضاً، مشاعر كانت كامنة غالباً تحجبها المجاملة ولغة الديبلوماسية والمصالح المتبادلة وخطاب توفيقي يستشعر أصحابه خطورة الانزلاق إلى صراعات متفلتة لا يمكن لجمها بسهولة.
كادت أن تنفلت بين السنّة والدروز على خلفية حوادث السويداء في سوريا، رغم العلاقات الجيدة والتحالف بين الطرفين الذي تعزز منذ ما قبل عام 2005 على قاعدة الخصومة مع نظام بشار الأسد، وتحالف المصالح بين الرئيس رفيق الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط. يبدو نداء “يا غيرة الدين” أقوى من كل التحالفات الظرفية والاتفاقات السياسية وحتى أقوى من الإنتماء الوطني. تم ضبط الوضع على الأرض بسرعة وهدأت النار تحت المرجل مع هدوء الوضع على جبهة المحافظة السورية ذات الغالبية الدرزية مع جيرانها من العشائر العربية السنيّة.
“مئة عام من الطائفية”، عنوان كتاب لنصري الصايغ، هي عمر البلد منذ أعلنته فرنسا جمهورية كبيرة. طائفية يخفت صوتها قليلاً ثم يرتفع وآخر تجلياتها “الحرب” الكلامية الحادة المندلعة اليوم بين “الشيعة” وبعض طوائف أخرى في البلد الغارق في أزمات لا حصر لها.
لم تندلع “الحرب” الطائفية في لبنان اليوم، هي في أساس الكيان الذي قام على دستور طائفي وتقاسم مغانم، وانفجر اكثر من مرة وتذابح أهله في الحرب الأهلية التي بدأت تحت شعارات وطنية وقومية واجتماعية، ثم تحولت إلى حرب طائفية عززها التدخل السوري لمصلحة المسيحيين قبل أن يتحول بعد فترة وجيزة إلى وصاية على البلد بالتحالف مع المسلمين. لم يشارك الشيعة ككتلة شعبية، في الحروب الأهلية، بل كأفراد في منظمات وأحزاب قومية ويسارية وفي منظمات فلسطينية، مؤسس حركة “أمل” الإمام موسى الصدر اعتصم احتجاجاً على الحرب الأهلية وسعى إلى وقفها قبل أن يُخفى في ليبيا عام 1978. بعده انغمست الحركة في صراعات داخلية كثيرة مع أحزاب لبنانية ومنظمات فلسطينية، ودخلت “نادي” الأحزاب المسلحة في المناطق الإسلامية متمتعة برعاية سورية مميزة امتداداً للعلاقات التي كان شبكها الصدر مع الرئيس السوري حافظ الأسد.
مع ظهور “حزب الله” بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان واحتلاله بيروت عام 1982، بدأ الصعود القوي للطائفة الشيعية التي تقاسم النفوذ فيها الحزب والحركة، وهو صعود استند إلى الحق في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي وإلى تعاظم القوة المالية والعسكرية بدعم إيراني سخي وبتسهيل سوري بلا حدود، في سياق السياسة الإيرانية الساعية إلى إقامة المحور الذي سمي محور الممانعة في دول الهلال الخصيب واليمن.
كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005 الحدث الذي سيقلب لبنان ويضيف إلى الصراع الطائفي بُعداً مذهبياً بين الشيعة، من جهة، والسنّة (والدروز) من جهة أخرى، في جبهتين الأولى مؤيدة لنظام بشار الأسد المتهم بالاغتيال والثانية معادية له. حدث آخر سيكون مركزياً أيضاً هو حرب تموز/يوليو 2006 التي كرّست قوة “حزب الله” التي استطاعت جبه إسرائيل مدى شهر كامل ومنعتها من التقدم في الأراضي اللبنانية.
تعاظمت قوة “حزب الله” العسكرية وكذلك انغماسه في زواريب السياسة اللبنانية ومحاصصاتها وتحالفاتها وصفقاتها، وباتت له كلمة فاصلة في مختلف الملفات، وخاض صراعات مسلحة اتخذت طابعاً مذهبياً في بيروت والجبل (أيار 2008)، واقتحم انصاره مناطق مسيحية بالدراجات النارية في أكثر من مناسبة. ثم انخرط في الحرب السورية إلى جانب النظام السوري وهي حرب لبست في جانب منها لبوساً مذهبياً: شيعة ضد سنّة وسنّة ضد شيعة.
كان كل شيء يشي بتعقيد الوضع السياسي في لبنان والمنطقة عندما بدأت الحرب السورية، لكن الحدث الذي زلزل المنطقة كان الحرب الإسرائيلية على غزة وعلى لبنان وإيران بتفرعاتها المتعددة وأسبابها المعلومة والمجهولة. هذه الحرب أفرزت واقعاً لبنانياً أكثر تعقيداً، ففيما اعتبر قسم من اللبنانيين أن “حزب الله” تلقى هزيمة ساحقة وعليه أن يلقي سلاحه الذي لم تعد له وظيفة دفاعية هو غير قادر عليها، وبات سلاحاً داخلياً لفرض أمر واقع سياسي، تمسك الحزب بهذا السلاح معتبراً أنه وحده يحميه ويحمي لبنان وأن وجود الشيعة كطائفة بات مرتبطاً بهذا السلاح.
تصاعد السجال بين الحزب وخصومه ليتحول إلى صراع مكنون بين أبناء الطائفة الشيعية وأبناء الطوائف الأخرى، ما لبث أن امتد إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ليروج الشيعة أنهم مستهدفون كطائفة، وهم أظهروا تكتلاً قوياً في مواجهة الطوائف الأخرى. وبينما كان مناهضو “حزب الله” يأملون في إحداث خرق ما في الجدار الشيعي، إذ بالشيعة بأكثريتهم، مثقفيهم ونخبوييهم وعامتهم، ينخرطون في حملة الدفاع عن بقاء السلاح وفي تبني نظرية أن الطائفة بكليتها مستهدفة. لم تنجح حملة فك الارتباط بين الشيعة والحزب عبر تحميله مسؤولية الدمار الذي حل بقراهم ومدنهم وممتلكاتهم.
يعيش لبنان اليوم على وقع “حرب” طائفية ومذهبية شبه معلنة، سقطت كل الأقنعة والقفازات وأفرزت الساحات وجوهاً متطرفة من كل الطوائف والمذاهب، تتصدر الشاشات وصفحات الميديا الاجتماعية تتحدث بلغات متطرفة بلا ضوابط وبلا لياقات حتى وبلا حسابات مستقبلية، وسط تسابق القنوات التلفزيونية (وهي طائفية ومذهبية أيضاً) على الحقن بنار الفتنة عبر استضافة أشخاص ينفخون في النار.
هل كل هذا الحقن يهدف إلى جعل التعايش مستحيلاً؟