لبنان عند تقاطع مفهومَي السيادة المتضاربين

الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ
أستاذ في جامعة القديس يوسف
“لا النجاح نهائيّ ولا الفشل قاتل، فالمهمّ هي الشجاعة على الاستمرار” (ونستون تشرشل).
منذ أن قرّرت الحكومة في اجتماعها المنعقد في 5 آب 2025، حصر السلاح بيد الدولة، دخل لبنان في مأزق سياسيّ ينطوي ظاهريًّا على رؤيتَين متناقضتَين للسيادة. أمّا الرؤية الأولى فتستند إلى مبدأ دستوريّ معترف به دوليًّا يُعيد إلى الأذهان تعريف ماكس فيبر الدولةَ بصفتها صاحبة الحقّ باحتكار استخدام العنف المشروع ضمن أراضيها. وانطلاقًا من هذه المسلّمة التي لها وزنها في الفكر السياسيّ المعاصر، وأثرها في مبدأ سيادة الدولة الذي يُسلِّم به القانون الدوليّ، لا يرى أنصار نزع السلاح غير الشرعيّ الذي يطال سلاح حزب الله في القرار، انتصارًا لفريق على فريق آخر، بل تحقيق السيادة التي تجسّدها الدولة. فضلاً عن أنّ بلوغ هذا الهدف شرط لا غنى عنه للحصول على المساعدات الخارجيّة لإعادة الإعمار، وتوفير الظروف الملائمة للنهضة الاقتصاديّة.
أمّا الرؤية الثانية، على خلاف الأولى، فترى أنّ السيادة لا تتحقّق في الدولة وحدها، بل في القدرة على المقاومة المسلّحة، لا سيّما وأنّ الأمر يتّصل بدولة ضعيفة وحكومة قائمة تُعدّ خاضعة لإرادة الولايات المتّحدة الأميركيّة وحلفائها بما فيهم إسرائيل. لذا، فإنّ المقاومة المسلّحة المستقلّة عن القوى المسلّحة الشرعيّة، تبقى ضامن الحريّة والسيادة في وجه التهديدات الخارجيّة. وبالتالي، فإنّ أيّ خطوة تهدف إلى نزع سلاح المقاومة لا يخدم السيادة، بل، على عكس ذلك، يحرم البلاد من القدرة على مواجهة الهيمنة الخارجيّة. وباختصار، تبقى المقاومة المسلّحة ضامنة السيادة الحقيقيّة ما دامت تستجيب لوضع استثنائيّ يُحتّم الاضطلاع بواجب الدفاع عن النفس في وجه العدو، وإنّ كانت المقاومة تلك خارج إطار مؤسّسات الدولة.
تدعو هذه الازدواجية الخلافية إلى اعتبار المسألة من منظورَين متداخلَين بغية التماس مخارج فعليّة دائمة: برغماتيّ وبنيويّ. ففي حين يركّز المنظور الأوّل على خلفيّة القرار الحكوميّ ونتائجه المتوقّعة على استقرار البلاد وتوازناتها الداخليّة، ومخارجه الممكنة في ضوء الواقع اللبنانيّ والسياسات المتّبعة، يوضح المنظور الثاني بُنى النظام اللبنانيّ الطائفيّ ويكشف كيف أنّ المنطق الطائفيّ الذي يُشغِّل هذه البُنى يُقيِّد ممارسة السيادة ممارسةً فعليّة، ويحول دون التوصّل إلى حلول دائمة توفّر أسس قيام دولة حديثة وقويّة.
مجلس الوزراء منعقداً في إحدى جلساته (إكس).
على الصعيد البرغماتيّ، تطرح الوقائع الميدانيّة علامات استفهام بشأن شرعيّة المقاومة المسلّحة بصفتها ضامن السيادة الوطنيّة. فمن جهة، ليس ثمّة إجماع وطنيّ بشأن هذا المفهوم، بل تبدو المقاومة عامل انقسام داخليّ يساهم في إضعاف الدولة عوض تقويتها. ومن جهة ثانية، أظهرت المواجهة العسكريّة الأخيرة مع إسرائيل حدود المقاومة العملياتيّة وقدراتها الدفاعيّة. إذ دُمِّرت أجزاء واسعة من الجنوب وضاحية بيروت الجنوبيّة وبعض مناطق البقاع، وتراجعت قدرات المقاومة العسكريّة تراجعًا كبيرًا. وفي نظر العديد من المراقبين، فقدت المقاومة ما كانت تنادي به دائمًا من امتلاكها قوّة ردع تجاه العدوّ، وبات استعادة تلك القدرة مستحيلاً في أعقاب التحوّلات الإقليميّة، ولا سيّما سقوط نظام الرئيس الأسد، وحرب غزّة، والضربات العسكريّة التي طالت الداخل الإيرانيّ، وباختصار تفكّك محور الممانعة. وفي ضوء هذا الواقع، يمكن أن يؤدّي تصلّب موقف حزب الله، وبشكل أوسع الثنائيّ الشيعيّ، إلى توتّرات داخليّة قد تكتسب مع تفاقمها طابعًا طائفيًّا، كما وإمكانيّة عودة التصعيد العسكريّ مع إسرائيل. وقد أشار في هذا السياق عن حقّ الوزير جو عيسى الخوري إلى أنّ احتفاظ حزب الله بترسانته العسكريّة قد يدفع مجموعات لبنانيّة أخرى إلى التسلّح، أي يمكن أن تشهد البلاد إعادة إنتاج سيناريو السبعينيّات الذي عرف بروز ميليشيات بسبب الوجود العسكريّ الفلسطينيّ.
ويمكن برغماتيًّا أيضًا، على الصعيد السياسيّ، أن يكون المخرج من المأزق زيادةَ امتيازات الطائفة الشيعيّة ضمن النظام الطائفيّ. إلاّ أنّ مثل هذا المسار سيؤدّي إلى تفاقم الروح الطائفيّة وما تحمله من نزعة حذر وخوف متبادل وفساد في الحكم، كما إلى مطالبة الطوائف الأخرى بامتيازات مماثلة كلّما وافقتها الظروف، ممّا يُدخل البلاد في دورة صراع على السلطة لا تنتهي، ويضفي على الدولة طابع ضعف دائم. وباختصار، فإنّ أيّ نجاح لسياسة التسويات القائمة على المحاصصة في السلطة التي يُتقنها العديد من المسؤولين اللبنانيّين، لن تسفر إلاّ عن تهدئة مؤقتة للتوترات والمخاوف المتبادلة.
وثمّة كلام قديم جديد على ضرورة التوافق على إستراتيجيّة دفاع وطنيّ سبيلاً لحلّ مسألة سلاح حزب الله. غير أنّ الكلام على مثل هذه الإستراتيجيّة في الوسط السياسيّ يُفهم تسوية تكتيكيّة أو برغماتيّة ليس إلاّ، في حين أنّ المسألة لا يمكن أبدًا أن تقتصر على هذه المقاربة، وهذا يوصلنا إلى مشكلة الناحية البنيويّة. ذلك أنّه يجب التمييز بين السياسة الدفاعيّة التي تنطوي على مبادئ أساسيّة، والسياسة الإستراتيجيّة التي تُترجِم عمليًّا تلك السياسة. ويفترض هذا التمييز الأساسيّ توفّر شروط داخليّة معيّنة أهمّها هويّة وطنيّة مشتركة تتمتّع بعناصر ثابتة وقويّة، تُترجَم بتماسك اجتماعيّ، وتُنتج مفهومًا للخير العامّ والمصلحة الوطنيّة، ومؤسّسات متينة قادرة على صياغة السياسات الدفاعيّة والأمنيّة والسهر على تنفيذها، ودولة يسود فيها القانون وتُطبِّق على أراضيها حقوق الإنسان، فضلاً عن حسّ مدنيّ ووطنيّ عند المواطنين يُترجم بانخراطهم الفعّال في الشؤون العامّة على أساس ديموقراطيّ، ويعرفون كيف يغلّبون مصالحهم المحليّة على كلّ اعتبار خارجيّ.
وغنيّ عن القول إنّه في إطار نظام يعمل على أساس طائفيّ، لا يمكن أن تتوفّر مثل هذه الشروط التي تبقى، بالرغم من كلّ شيء بمثابة أهداف سامية يجب العمل لبلوغها. لذا، فبالإضافة إلى بذل الجهود بغية التوصّل إلى حلّ سلميّ لمسألة حصر السلاح، تحتاج البلاد إلى تقوية تلك العناصر التي تؤسّس لثقافة سياسيّة لبنانيّة جامعة، تحرِّر الفرد من انتمائه الجمعويّ وتسمح بالتالي بولادته مواطنًا، وتقوّي الشعور بالانتماء إلى الوطن الواحد، وتُنقّي الدستور من العناصر الطائفيّة التي تُعطِّل العمل بروحه الديموقراطيّة. وخلاصة القول إنّه لا يمكن اختزال الاستراتيجيّة الدفاعيّة بتسويات برغماتيّة وقدرات عسكريّة فحسب، بل هي مشروع سياسيّ وطنيّ، يعكس طريقة تصوّر الحكومة للمجتمع نفسه. “إذا لم تكن هناك رؤيا، كان الشعبُ مُطلقَ العِنان” (حكمة من الكتاب المقدّس).