وصاية قانونية على أكبر أحزاب المعارضة: قلق على الديمقراطية في تركيا!

هز قرار قضائي صادر عن محكمة إسطنبول المدنية المشهد السياسي التركي من أساسه. ففي خطوة غير مسبوقة، أقدمت المحكمة في الثاني من أيلول/سبتمبر الجاري على إلغاء نتائج المؤتمر الإقليمي لحزب الشعب الجمهوري المعارض (CHP) – أكبر أحزاب المعارضة – الذي جرى في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وعيّنت وصياً لإدارة فرع إسطنبول.
القرار ليس مجرد نزاع حزبي داخلي عابر، بل اختبار حاسم لمستقبل الديموقراطية التركية، وتوازن القوى بين الحكومة والمعارضة، ومدى استقلالية القضاء.
بالتزامن، تواصلت المداهمات ضد بلديات حزب الشعب الجمهوري، والتي بدأت في 30 تشرين الأول 2024، مع اعتقال أحمد أوزر، رئيس بلدية إسنيورت، في مداهمة فجرية.
وفي إطار التحقيق المتعلق برجل الأعمال عزيز إحسان أكتاش، الذي أُطلق سراحه بعد استفادته من “قانون الندم الفعال”، صدرت أوامر اعتقال بحق سبعة موظفين في بلديتي أفجيلار وبشكتاش، حيث أقدمت فرق مكافحة الجرائم المالية في مديرية أمن إسطنبول، فجر الأربعاء، على تنفيذ عملية مداهمة وتفتيش لمنازل الموظفين السبعة واعتقالهم. كما لا يزال رئيسا بلدية بشكتاش رضا أكبولات، وأفجيلار أوتكو كانر تشايكارا، موقوفين في السجن بعد إدانتهما في تحقيق عزيز إحسان أكتاش وتوقيفهما عن العمل.
وصاية على أكبر أحزاب المعارضة التركية
يمثّل قرار المحكمة سابقة قانونية مثيرة للجدل، لثلاثة أسباب:
أولاً- بدلاً من تدخّل المحكمة الدستورية، الهيئة المكلّفة النظر في مثل هذه المنازعات، جاء القرار من محكمة مدنية ابتدائية (رقم 45 في إسطنبول)، ما يوسّع نطاق التدخل القضائي في الشؤون الداخلية للأحزاب إلى مستويات غير مسبوقة.
ثانياً- استند الحكم إلى ثلاثة مبررات رئيسية:
– انتهاك لوائح الحزب وقانونه الداخلي بنقل مكان انعقاد المؤتمر من منطقة “ساريير” إلى “مركز هاليتش” في بيوغلو، ما خالف، بحسب زعم الدعوى، المادة 12 من لوائح الحزب والقانون التركي الرقم 2820 الخاص بالأحزاب السياسية.
– مزاعم الاحتيال المنهجي التي تضمنت اتهامات بدفع رشى نقدية للمندوبين تتراوح بين 150-350 ألف ليرة تركية.
(5000-10000 دولار)، وتوزيع أجهزة لوحية، ووعد بمنح وظائف في بلديات يحكمها الشعب الجمهوري.
– تضخيم الأصوات: تم إحصاء 612 صوتاً في مؤتمر كان يفترض أن يحضره 600 مندوب معتمد فقط.
ثالثاً- الإجراء المصاحب للقرار، إذ لم يقتصر الأمر على إبطال نتائج المؤتمر، بل تم تجميد عضوية 196 مندوباً وتعيين مجلس وصاية من 5 أعضاء بقيادة غورسل تكين، وهو شخصية مثيرة للانقسام استقال من الحزب في 2024 على خلفية خلافات أيديولوجية، ولم يقدم أوراق استقالته رسمياً، ما يطرح تساؤلات كبيرة حول شرعية تعيينه.
اعتبر قانونيون أتراك هذا القرار سابقة خطيرة باعتباره يشرعن “التدخل بأثر رجعي”، حيث يصبح ممكناً إبطال أي عملية ديموقراطية داخلية بعد سنوات من انعقادها، وهذا يخلق حالة من عدم الاستقرار الدائم، ويهدد أي حزب معارض بالمحاسبة اللاحقة.
مخاوف من انقسام داخل الشعب الجمهوري
امتد تأثير القرار ليضرب بعمق في بنية المعارضة التركية ومشروعها الديموقراطي الأوسع. فقد كشف القرار النقاب عن الانقسام العميق داخل حزب الشعب الجمهوري بين تيارين رئيسيين:
– الإصلاحيون: بزعامة رئيس بلدية إسطنبول السابق أكرم إمام أوغلو (المسجون حالياً)، ويدعمهم الناخبون الشباب والليبراليون، وهم الداعمون الرئيسيون لزعيم الحزب الحالي لأوزغور أوزيل وأجندته الإصلاحية.
– التقليديون: بزعامة رئيس الحزب السابق، كمال كليجدار أوغلو، وتمثلهم بيروقراطية الحزب القديمة وتميل إلى المركزية والحذر.
ردة فعل أوزيل كانت صارمة، حيث أقدم على طرد تكين المعيّن وصياً من المحكمة فوراً من الحزب، ووصف القرار “بالانقلاب المدعوم من القصر”. لا يهدد هذا الانقسام بتمزق الحزب فحسب، بل يمنعه من أداء دوره الأساسي كمعارضة فاعلة.
أدان حزب “ديم” الموالي للكرد القرار ووصفه بأداة جديدة “لتجريم المعارضة”، مقارناً إياه بتعيين الوصاية على البلديات الكردية، كما انتقد حزب “الجيد” التدخّل القضائي لكنه تجنب دعم حزب الشعب الجمهوري بالكامل، ما يعكس هشاشة تحالف المعارضة السابق.
دولياً، لاحظ تقرير مسودة للاتحاد الأوروبي “نمطاً مقلقاً في تسييس القضاء”، وحذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية من “تسارع النزعة السلطوية القانونية”.
تسبب القرار في إرسال رسالة مفادها أن القضاء لم يعد حامياً للديموقراطية، بل أداة في الصراع السياسي. وتجلى هذا الخوف فوراً في الأسواق، حيث انخفض مؤشر البورصة الرئيسي (BIST100) أكثر من 5%، وفقدت أسهم البنوك 6% من قيمتها، ما اضطر السلطات إلى تفعيل القيود على البيع لتجنب الانهيار، في إشارة واضحة إلى حساسية المستثمرين لعدم الاستقرار السياسي.
4 سيناريوهات محتملة لأزمة حزب الشعب الجمهوري
أمام هذه الأزمة، تبرز سيناريوهات عدة محتملة ستشكل مستقبل تركيا السياسي حتى انتخابات 2028 وما بعدها.
السيناريو الأول: الاستنزاف القانوني الطويل، وهو الأكثر ترجيحاً، حيث يستمر حزب الشعب الجمهوري في معركته عبر القنوات القانونية، من خلال الاستئناف أمام المحكمة الدستورية ثم التقدم إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. هذا المسار الطويل يبقي الحزب في حالة شلل تنظيمي، خاصة في إسطنبول، معقل المعارضة وأكبر كتلة ناخبة، ما يسمح لحزب العدالة والتنمية الحاكم بتحقيق مكاسب انتخابية عبر استغلال انشغال المعارضة بمشكلاتها الداخلية.
السيناريو الثاني: التمرد الداخلي والانقسام، فإذا فشلت المسارات القانونية، قد يؤدي التمرّد داخل الحزب إلى انشقاق جماعي وتشكيل حزب جديد أو تشكيل كتلة منافسة. سيكون هذا السيناريو كارثياً على المعارضة، لأنه يقسم أصواتها ويضمن هيمنة الحزب الحاكم لفترات مقبلة.
السيناريو الثالث: حشد الشارع والتصعيد، وهو الأقل ترجيحاً حالياً. لكن، بدأت بوادر هذا السيناريو تظهر عبر احتجاجات شباب الحزب تحت شعار “ارفعوا أيديكم عن ديموقراطيتنا”. تصاعد وتيرة القمع القضائي ضد الحزب قد يدفع نحو خروج تظاهرات أكبر، خاصة إذا تم إلغاء المؤتمر العام للحزب، والمقرر النظر فيه في 15 أيلول الجاري. لكن هذا السيناريو محفوف بالمخاطر بسبب البيئة السياسية المشحونة والسجناء السياسيين من المعارضة.
السيناريو الرابع: تدخل دولي رادع، فقد يزيد الضغط الدولي، خاصة من الاتحاد الأوروبي، من تكلفة القرار على الحكومة التركية. إذا ربطت دول ومؤسسات مالية كبيرة استمرار العلاقات والاستثمارات بضمان نزاهة العملية الديموقراطية، قد نرى تراجعاً تكتيكياً من النظام، ربما عبر إجراء انتخابات حزبية جديدة تحت مراقبة دولية.
ليست أزمة مؤتمر إسطنبول مجرد نزاع على كرسي رئاسة فرع حزبي، بل حلقة جديدة في صراع أوسع على طبيعة النظام السياسي في تركيا. تحويل القضاء إلى ساحة معركة سياسية لا يستهدف حزب الشعب الجمهوري وحده، بل يخترق أحد المبادئ الأساسية للديموقراطية: حق الأحزاب في تنظيم شؤونها الداخلية من دون خوف من تدخل لاحق بأثر رجعي.
يعيد القرار إنتاج نموذج “الوصاية” البيروقراطي-العسكري الذي عرفته تركيا عقوداً طويلة، لكن بأدوات جديدة. ويعتمد المستقبل الآن على قدرة المعارضة على تجاوز انقساماتها، وإصرار الناخب التركي على رفض أي مساس بحقه في اختيار ممثليه بحرية ونزاهة. تمثّل المعركة على إسطنبول في جوهرها معركة على مستقبل تركيا الديموقراطي.