ستون عامًا مع شخصية معقدة: في خيمة القذافي… الرجل الغامض بين الثورة والتعتيم!

ستون عامًا مع شخصية معقدة: في خيمة القذافي… الرجل الغامض بين الثورة والتعتيم!

محمد عبدالله

 

 

ستة وخمسون عاماً مرّت على انقلاب “الفاتح من سبتمبر(أيلول) 1969، اليوم الذي أطاح فيه العقيد معمر القذافي النظام الملكي لإدريس السنوسي، ليعلن ميلاد الجمهورية الليبية التي تحولت لاحقًا إلى الجماهيرية الشعبية بعد إزالة كلمة “العربية”. لم يكن ما جرى مجرد تغيير في قمة السلطة، بل بداية مسار طويل لأحد أكثر الزعماء العرب إثارة للجدل.

 

 

في سنواته الأولى، بدا القذافي امتداداً لموجة الانقلابات العسكرية التي اجتاحت العالم العربي في خمسينات القرن الماضي وستيناته: انقلاب “الضباط الأحرار” في مصر (1952)، البعثيون في سوريا (1963)، وانقلاب العراق (1968). كلّها حملت شعارات التحرر والوحدة والاشتراكية، لكن التجارب الأخرى سعت إلى بناء مؤسسات حكم، بينما حوّل القذافي ليبيا إلى ساحة مفتوحة لأفكاره في “الكتاب الأخضر”، أطلق عليها اسم “النظرية العالمية الثالثة”.
مع فشل مشاريع الوحدة العربية، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد مع مصر وسوريا، وصدامه مع أنور السادات عقب كامب ديفيد، وجد القذافي نفسه معزولاً عربياً. فانتقل إلى إفريقيا، حيث ضخ الأموال لتعويض خسارته في المحيط العربي، وتوّج نفسه لاحقا بلقب “ملك ملوك إفريقيا”.
صدام في قناة “الليبية”: عندما دخل القذافي شخصياً!
في عام 2009، كانت قناة “الليبية” الفضائية التابعة لمؤسسة “الغد” التي يشرف عليها سيف الإسلام القذافي، اول فسحة نادرة للحرية الإعلامية في عهد العقيد. وكنت يومها مع المخرج اللبناني جوزف شعنين، جزءاً من الفريق الذي يدير هذه القناة، وشهدت أحداثًاً لا تُنسى…
كان الإعلامي المصري حمدي قنديل، المعروف بانتقاداته للرئيس الراحل حسني مبارك، قد اتفق مع عبدالسلام المشري، المشرف العام على  القناة القريب من نجل العقيد سيف الإسلام، على تقديم برنامجه “قلم رصاص” من لندن. لكن حلقة واحدة أشعلت التوتر. تناول قنديل فيها قضية إيقاف السلطات المصرية “خلية حزب الله في مصر”، وانتقد موقف الحكومة والرئيس، مما دفع مبارك الى الاتصال بالقذافي مستفسراً: “إيه الحكاية يا عقيد، نحنا بننشتم على قناة ليبية؟”.
بلغ التوتر ذروته بعد هذه المكالمة، إذ توجه القذافي شخصياً إلى القناة من دون حراس، يرافقه رئيس هيئة الاعلام الرسمي الجماهيري علي الكيلاني القذافي القريب منه، والغضب يرتسم على ملامحه. عمّت الصدمة الجميع، وبدت الدقائق التي تجول فيها القذافي في ردهة المبنى أمام الجميع كأنها ساعات.
بعدها علمنا ان المشري تلقى مكالمة من مكتب القذافي لإيقاف الحلقة، لكنه رفض، موضحاً أنه يتلقى تعليماته من سيف الإسلام الذي أمر بمواصلة البث. لكن الأحداث تعاقبت بسرعة: حُبس المشري داخل مكتب القذافي في باب العزيزية، أُوقف بث القناة، ثم ضُمّت إلى هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية.
وخلال جولته القصيرة، التفت القذافي إلى علي الكيلاني وسأله بصوت حاد:
“خلاص وضعت يدك على كل شيء؟”.
وعندما تلقى الإجابة، غادر المكان، لتصبح تلك اللحظة رمزاً للصدام بين الإعلام والسلطة، وللتأثير الكبير لكلمة واحدة على مصير برامج وأشخاص في دقائق معدودة.
في خيمة القذافي… لقاء مع رجل اللغز!
عام 2010، قبل اندلاع ثورة فبراير (شباط)، التقيت العقيد مع شخصيات لبنانية في قلب باب العزيزية، وهو المقر الأشهر للقذافي في طرابلس، وكانت المرة الأخيرة له هناك قبل إطاحته، بحيث تحولت الخيمة البدوية الكبيرة مركز قيادة، واختلطت المساحات الخضراء بالإبل، فشعرت أنني دخلت مسرحاً لعالم آخر، عالم رجل واحد.
كان القذافي مزيجاً من البدوي الثائر والملياردير المتحكم بمليارات لا أحد يرفضها، والثائر الذي أطاح الملكية. يكفيه أن يكتب رقماً على قصاصة ورقية، لتتحول إلى شيك نافذ فوراً، رغم أنه كان يؤكد أنه لا توجد حسابات مصرفية باسمه.
في مستهل اللقاء بالطبع سأل عن لبنان، واشار الى أن الكثير من اسماء مناطقه تتشابه مع مناطق في ليبيا، موضحاً أن ثمة منطقة في ليبيا اسمها عكار، وعندما سئل عن اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، تنهد وأجاب:
“كيف يمكن لأي عاقل أن يصدق أنني، معمر القذافي، ابن القبيلة التي تكرم ضيفها، ان اكون استضفت الإمام الصدر بمناسبة الاحتفال بثورة الفاتح وقمت بتصفيته؟”. وأضاف: “اعتقد انها لعبة استخبارات معقدة استهدفتنا”.
بعدها دار حديث عن العلاقة مع لبنان وانه سحب السفير وأقفل السفارة، بسبب تصرفات  بعض المسؤولين في لبنان، اهانوا السفير الليبي، وكان يقصد تجاهل الرئيس نبيه بري للسفير الليبي  في احتفالات ذكرى الاستقلال اللبناني .
 المشهد الديبلوماسي الغريب!
حادثة اخرى مثيرة للاهتمام عن أحد الديبلوماسيين الذي روى موقفاً غريباً، فقد دُعي هو وزملاؤه الى لقاء العقيد في فندق بطرابلس، ثم نُقلوا بحافلات إلى الصحراء، حيث اصطف الديبلوماسيون العرب في خط، والأجانب في خط آخر، منتظرين وصوله. فجأة، مرّ خيال لف رأسه بكوفية، مثيراً الغبار بينهم. عندها أبلغهم المرافق الليبي أن “اللقاء انتهى”، إذ كان القذافي على حصانه، يمر بينهم كما يشاء، بلا كلمات، بلا بروتوكولات، وتركهم مذهولين، يحدقون في رجل صنع لنفسه عالماً كله ألغاز.
قرابة ستة عقود تكفي للحكم على أن “ثورة الفاتح من سبتمبر” لم تُنجز حلم الدولة الحديثة، بل صنعت نظاماً ارتبط باسم رجل واحد. القذافي لم يكن مجرد قائد عسكري انقلابي، بل زعيم حالم إلى حد الوهم، صنع مجداً أسطورياً، لكنه ترك ليبيا أسيرة فراغ سياسي وانقسام لم تبرأ منه حتى اليوم. وبينما تنقّل بين شعار الوحدة العربية وحلم الزعامة الإفريقية، انتهى به الأمر أسير تناقضاته!