معركة غير عادية تلوح في الأفق تجاه الفيدرالي: ترامب يوجه انتقادات حادة للاستقلالية

معركة غير عادية تلوح في الأفق تجاه الفيدرالي: ترامب يوجه انتقادات حادة للاستقلالية

منذ تأسيسه قبل أكثر من قرن، نجا الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من أزمات كبرى: كساد الثلاثينيات، حروب التضخم في السبعينيات، وانهيار 2008. لكن لم يعرف تاريخه مواجهة علنية مع رئيس أميركي مثل تلك التي أشعلها دونالد ترامب بمحاولته إقالة الحاكمة ليزا كوك. إنها ليست مجرد قضية شخصية أو ملف قروض عقارية مشبوهة، بل اختبار دستوري وسياسي قد يحدد مستقبل استقلالية المؤسسة النقدية الأهم في العالم.

 

صراع السلطة: البيت الأبيض في مواجهة الفيدرالي
في رسالة نشرها عبر “تروث سوشال”، أعلن ترامب أن لديه “سبباً كافياً” لإقالة كوك بدعوى تزوير مستندات رهن عقاري. لكنه بذلك دخل منطقة قانونية ملغومة. فالقانون لا يمنح الرئيس سلطة الإقالة إلا “لأسباب محددة”: الإهمال، التقصير في الواجب، أو فساد مباشر أثناء الخدمة. كوك، التي عيّنها جو بايدن عام 2022 وتستمر ولايتها حتى 2038، ردّت سريعاً: “الرئيس لا يملك هذه الصلاحية… ولن أستقيل”.
المشهد بدا كأنه مواجهة بين رمزين: رئيس يسعى لفرض قبضته على السياسة النقدية، وحاكمة تصرّ على أن استقلال الفيدرالي ليس قابلاً للمساومة. وفي الخلفية، يدرك العالم أن كل قرار هنا ينعكس مباشرة على أسواق المال من آسيا حتى وول ستريت.

 

الأسواق تقلب الطاولة: الدولار يتراجع والعوائد تتذبذب
لم تتأخر الأسواق في قراءة الرسالة. تقلب أداء مؤشر الدولار، تراجعت عوائد السندات القصيرة الأجل، وتراجعت مؤشرات الأسهم الأميركية. المستثمرون يدركون أن أي مساس باستقلال الفيدرالي قد يضعف ثقة وكالات التصنيف بالولايات المتحدة نفسها. وكالة “S&P Global” حذرت قبل أسابيع فقط من أن أي تسييس مفرط للبنك المركزي قد يضغط على التصنيف الائتماني الأميركي. أي تصور بأن صانعي السياسة قد يصبحون أكثر حساسية للبيت الأبيض يترجم عادةً إلى مطالبة السوق بعلاوة عائد أعلى على الآجال الطويلة (تعويضاً عن أخطار التضخم/السياسة)، وإلى إعادة تسعير مسار الفائدة القريب. هذا ما لمحته التحركات الأولية اليوم: ضغوط على الدولار وتذبذب في عائدات الخزانة مع نقاش متجدد حول خفض في أيلول/سبتمبر.

 

الذاكرة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي حينما أدى ضغط البيت الأبيض على الفيدرالي إلى سياسات نقدية فضفاضة أسهمت بتفجر موجات تضخم قاسية. هل يُكتب الفصل نفسه مجدّداً؟

 

الأبعاد الدستورية: سابقة بلا مرجع
لم يحدث في تاريخ الفيدرالي أن أقال رئيس أميركي عضواً في مجلس الحكام. وإذا مضت القضية إلى المحاكم، فستكون أول اختبار عملي لتفسير المحكمة العليا لمفهوم “الإقالة للسبب”. محامو كوك يستعدون لطلب أمر قضائي عاجل لوقف تنفيذ القرار، فيما يرى خبراء القانون أن المحكمة قد تجد نفسها مضطرة لترسيم حدود جديدة بين السلطة التنفيذية واستقلال المؤسسات.

 

إن الحماية للمنصب العام تعني أن السبب يجب أن يكون مرتبطاً بالإخلال أثناء الخدمة، لا بما يسبقها. وهذا ما قد يطيح بحجج ترامب إن لم تثبت التهم.

 

 

جيروم باول، رئيس الفيدرالي الأميركي (وكالات)

 

أبعاد سياسية أوسع: الاقتصاد في مرمى الصراع
ترامب لم يخفِ امتعاضه من سياسات الفيدرالي هذا العام. فقد اتهمه مراراً بإبقاء الفوائد مرتفعة “بشكل يضرّ بالمواطن الأميركي ويضاعف كلفة الدين العام”. إقالة كوك تمنحه فرصة لترتيب أغلبية أربعة من أصل سبعة مقاعد، وهو ما يعني قلب موازين مجلس الحكام لمصلحته.
الديموقراطيون وصفوا الخطوة بأنها “انقلاب على الاستقلال النقدي”. السيناتور إليزابيث وارن رأت فيها “استيلاءً سلطوياً”، فيما علّق بعض الجمهوريين بأنها “تصحيح ضروري لمؤسسة بعيدة عن المساءلة”. بين هذين الموقفين، يقف الاقتصاد الأميركي رهينة التجاذبات.

القضاء، الإعلام، والرأي العام
وزارة العدل أعلنت نيّتها التحقيق في ادعاءات التلاعب بالقروض العقارية، لكنها لم توجه أي اتهام رسمي حتى الآن. الإعلام الأميركي انقسم بين من يصف الخطوة بأنها “معركة على الشرعية” ومن يراها “إصلاحاً متأخراً”. أما الرأي العام، فقد وجد نفسه أمام ملف تقني ومعقد يختلط فيه القانون بالاقتصاد بالسياسة.

 

وفي خلفية الصورة، يجلس جيروم باول، رئيس الفيدرالي، محاولاً التمسّك بخيط الاستقلالية الرفيع بينما تهبّ العاصفة من كل اتجاه.
إن التاريخ الأميركي حافل بمحاولات الرؤساء التأثير على الفيدرالي. ريتشارد نيكسون مارس ضغطاً على آلان غرينسبان قبل الانتخابات. ليندون جونسون هدّد ويليام مارتن في مزرعته الشهيرة في تكساس. لكن لم يجرؤ أحد على إقالة حاكم فعلي. الفرق اليوم أن الصراع خرج إلى العلن في زمن الأسواق المفتوحة والأنظار العالمية.

إلى أين؟
إذا نجح ترامب في تمرير خطوته، فقد يكون ذلك بداية لتغيير جذري في علاقة البيت الأبيض بالفيدرالي. وإذا فشلت، فستكون سابقة تعزز حصانة المؤسسة النقدية لعقود مقبلة.

 

بين هذا وذاك، يبقى السؤال الأهم: هل يستمر الفيدرالي حارساً مستقلاً للسياسة النقدية الأميركية، أم يتحول إلى أداة في لعبة السلطة؟
لكن على الأقل يبدو أن جيروم باول غيّر نبرته بعض الشيء، ولم يغلق الباب أبداً على خفض الفائدة في اجتماع سبتمبر المقبل.

 

** رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي