قانون الحشد الشعبي: ما هو المبلغ الذي يحقق رغبات المجاهدين المالية؟

قانون الحشد الشعبي: ما هو المبلغ الذي يحقق رغبات المجاهدين المالية؟

محمد السلطاني

في البداية، كان الأمر يشبه فضيحة بالنسبة إلى مقدّمي البرامج التلفزيونية المسائية، حين كشفت الأرقام الرسمية أن أعداد المنتسبين إلى هيئة الحشد الشعبي قفزت إلى الضعف بعد نهاية الحرب، مما يضع العراق منفرداً في قائمة فارغة تضم البلدان التي تضاعف أعداد قوات التعبئة بالتوقيت المعكوس. لاحقاً، تراجعت الدهشة تحت ضغط “الأمر الواقع”، والتطورات الأكثر إدهاشاً، ومنها الإصرار على تمرير قانون جديد للحشد الشعبي، يزدري المواعظ عن “القناعة” والزهد بالمال، ويركز على هدف مباشر ودقيق وواضح.

مسلحون بلا عمل
في عام 2014، وبعد الانسحاب الغامض للقوات العراقية بقيادة نوري المالكي أمام مجموعات تنظيم “داعش”، كانت فكرة المرجع الأعلى علي السيستاني أن يُعلن التعبئة العامة لسد الفراغ. تطوّع عشرات الآلاف بالفعل لكنهم وجدوا أنفسهم داخل تنظيمات مسلحة موازية وفصائل تابعة لقوى سياسية ومرتبطة بإيران عقائدياً وتنظيمياً. لم يشغل المتطوعون فراغ الفارين كما اعتقدوا واعتقد المرجع الأعلى.

انتهت الحرب في عام 2017، وعاد الجيش العراقي إلى ثكناته بكامل الشرعية الدستورية والشعبية، وغابت شؤونه عن نشرات الأخبار كشأن الجيوش في زمن السلم. أما الحشد وأصدقاؤه فبقي قصة مزمنة: مجاميع المسلّحين بلا عمل منذ 8 أعوام، ترفض إلقاء السلاح أو الاندماج، وتستغرق في احتمالات المهمة المقبلة… تحرير فلسطين، أم تهديد الخليج، أم قصف كردستان، أم قمع المتظاهرين، أم التحالف مع الصين!

يحظى الحشد الشعبي بالفعل بقانون يمنحه الشرعية وينظم عمله منذ عام 2016، وطوال 10 أعوام تتسلم تلك التنظيمات أموالاً كثيرة. لكنها اليوم، بمحاولة إقرار “قانون الحشد الشعبي الثاني”، تُظهر ميلاً إلى تمويل أكبر وأكثر استدامة وتنوعاً وقانونيةً.

ميزانية سوريا مقابل الاندماج بالعراق؟
عند نهاية الحرب في 2017 وهزيمة التنظيم، لم تتجاوز أعداد المنتسبين للحشد الشعبي الـ 100 ألف وفق معظم التقديرات. اليوم، تقول الفصائل ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض إن عددهم بلغ 204 آلاف.

لم يعد تداول هذه المفارقة أمراً فضائحياً، فقد تم تطبيع الفكرة؛ فطبيعي في العراق أن تحتاج 100 ألف رجل لتهزم داعش، و200 ألف كي لا تهزم أحداً.

في بداية كل عام، يصطف زعماء الفصائل أمام وزارة المالية مجازاً أو واقعاً، يقرعون بنادقهم وفضائياتهم ونوابهم، ترافقهم جحافل حسابات “إكس”، ويطلبون “الحصة”… وهي ليست من نوع الأتاوات المألوفة في العراق، والتي تدفعها الشركات لإرضاء بعض الجماعات “المتعسرة مالياً”، بل أكثر من 2,5 مليار دولار سنوياً. إن جماعة عسكرية واحدة تطلب أموالاً تساوي ميزانية دولة بحجم سوريا.

يتوجب على الحكومة أن تدفع “بلا كلام كثير وتدقيق أو مرور بديوان الرقابة”، وبالإمكان الاعتراض، بشرط تجهيز شهادة حمض نووي، تبعاً لحملات التشكيك بـ”طهارة المولد” التي تواجه الراغبين في مناقشة “أموال المقاومة”. كما قد يحتاج هذا النوع من الأسئلة إلى سيارة مصفحة وبدلة واقية من الرصاص، لم يستخدمها هشام الهاشمي، الباحث الذي حاول أن يستغرق “أكثر من المطلوب” في شأن تلك الأموال.

يعتقد بعض حكماء السياسة العراقية أن منح تلك المجاميع المزيد من الأموال قد يساهم في تهدئتهم وإشغالهم ودفعهم إلى عالم المليارات والاستثمارات بما يجعل مصالحهم مرتبطة باستقرار العراق، ويعلي ارتباطهم ببلادهم، ويخفف التبعية لإيران تدريجياً، ويغمد أسلحتهم عن صدور العراقيين. ويجادل آخرون بأن إلقاء الأموال بهذا الشكل يُشبه محاولة ردم حفرة النار بالقش؛ فميزانيات عقد من الزمن لم تحقق شيئاً من تلك الأهداف المفترضة، بل فتحت شهية “المجاهدين” على المزيد.

هواجس المال بين سطور القانون وفوقها
بمراجعة النسخة الأخيرة من مسوّدة القانون الجديد، يستخدم النص مفردة “مجاهدين” لوصف الجنود، ويمكن رصد 3 تغييرات رئيسية أجراها “النوّاب الحشديون”: أولاً، حاول المشرّع الحشدي ترضية “رئيس أركان الحشد” بمنحه “أكاديمية الحشد الشعبي” التي ينص القانون على إنشائها لاحقاً، بعدما ذهبت معظم الامتيازات إلى “رئيس الهيئة”؛ ثانياً، تعديل بكلمة واحدة، نقل مهمة “الحشد الشعبي” من قوة عراقية تنفذ الخطط العسكرية التي يضعها القائد العام، إلى قوة “تضع” الخطط أيضاً؛ أما العبارة الأكثر تكراراً وإلحاحاً وإصراراً فكانت “مال.. مالي.. أموال”. 

في المادة الأولى، يضيف أنصار الحشد عبارة “الاستقلال المالي”، وفي الثانية تمت إضافة عبارة “المساهمة في حماية وتطوير البنى التحتية” ضمن أهداف القانون، وهو ما سيقود إلى المادة السادسة حيث النص الصريح على شركة مقاولات حشدية تحمل اسم المهندس، وتعنى بالمشاريع الهندسية والإنشائية والميكانيكية والزراعية والصناعية. 

ثالثاً، أضاف النواب “استثمار الموارد البشرية والمالية”. وفي المادة الخامسة أضافوا “إقرار الموازنة السنوية” إلى مهام رئيس الهيئة، ثم تنفتح شهية المشرع الحشدي، ويكتب مادة يقول فيها إن للهيئة موازنة مالية مستقلة لكن على الحكومة العراقية أن تدفعها، ثم يوسع مدخولاته ليضيف عوائد استثمار أموال الهيئة والتبرعات “وأية موارد أخرى” وفق القانون، ويمنح “استيرادات الهيئة” إعفاء شاملاً من الضرائب والرسوم.

الدولة العراقية تستغيث
بدا مجلس شورى الدولة – وهو جهة رقابة قانونية رسمية واحترافية – مصدوماً من التضخم في المناصب المقترحة ضمن القانون، ومن نية إنشاء أكاديمية عسكرية رغم وجود الكلية العسكرية العريقة التابعة لوزارة الدفاع، إلى جانب انتقاد التوسع في صناعة تشكيلات “لا تمت بصلة” إلى ما يُفترض أنه جهة عسكرية، والمقصود هنا هو إلحاح النص المقترح على المال والاقتصاد، وهو الرأي الذي ذهبت إليه وزارة الداخلية أيضاً حين طالبت بجعل القانون محصوراً بتعريف مهام هذا الكيان.

ترسل وزارة المالية استغاثات وهي ترى جحافل الطامعين بالأموال المقوننة يقتربون من “الباب المعظم” نحو الخزينة، حاملين قانوناً وبنادق، بينما تقول الوزيرة طيف سامي إن البلاد تغرق في عجز الموازنة وقلة الموارد وديون خارجية وداخلية.

تأمين 5 أحزاب مدى الحياة
قد تبدو المساعي الحشدية متسقة مع مشاعر الرغبة الملحّة التي يعبر عنها قادة شيعة كثر لتكرار تجربة الحرس الثوري “الملهمة” في الاستقلال المالي والعسكري والسياسي عن الدولة الإيرانية، لكن الغرام بفكرة الاستنساخ يظهر عادة لدى القادة حديثي العهد بالعلاقة مع إيران. 

أما أولئك الذين عاشوا وعملوا مع الإيرانيين مبكراً – مثل أبو مهدي المهندس – فإنهم يعبرون مراراً عن رأيهم باستحالة “نسخ الحرس الثوري في العراق” تبعاً لقائمة طويلة من الفروقات.

لذا، النتيجة الأوضح لانتزاع نحو 3 مليارات دولار سنوياً من ميزانية الدولة، قابلة للزيادة، هي قوننة تمويل مستدام لخمسة أحزاب، تنفرد دون غيرها بالبنادق والأموال، وبالتالي نتائج الانتخابات والسلطة، وتجعل فكرة المنافسة الانتخابية طرفة باهتة، وهذا يتسق مع مسار التراجع العراقي التدريجي والمتسارع عن قصة الديموقراطية والانتخابات بكل أكسسواراتها، وإطلاق مرحلة جديدة من الديمقراطية المقيدة، حيث تتحول الانتخابات إلى استفتاء داخلي بين قوى الإطار الشيعي لتحديد الأوزان.