هنري زغيب… عندما يتجسد التراث بشكل حي

فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
في قلب بيروت، حيث تتعانق رائحة البحر مع ذكريات الطفولة، يظهر هنري زغيب كجسر حيّ بين الماضي والحاضر. شاعر يحمل نبرة الجبال وخرير الأنهار في قلبه، ويشدّ حاضر لبنان إلى ماضيه بخيط من الكلمة الصادقة. ليس مجرّد شاعر أو باحث، بل جسد يمشي فيه التراث كما يمشي الدم في العروق. أذكره منذ كنتُ تلميذًا، حين ورد اسمه في الكتاب المدرسي محمولًا على قصيدة جعلتني أرى لبنان في وجه الكلمة: قممه التي تعانق الغيم، أنهاره التي تشبه الحنين، وصوت داخلي يذكّرني بأن الوطن ليس حجارة وأشجارًا فحسب، بل حروف تسكن الروح.
لقاء الطفولة: وجه لبنان في الكلمة
ومضت الأعوام، فإذا بي أعود إليه من موقع آخر؛ هذه المرة كمدرّس أقدّم قصائده لتلاميذي، وأراقب كيف يلتقطون معانيها كما يلتقط العصفور حبة قمح. رأيت في عيونهم الدهشة نفسها التي عرفتها وأنا في عمرهم: شاعرٌ يتحدث لغتهم، يعيش زمنهم، ويُشرع لهم نافذة على أفق أوسع دون أن يقطع الجذور.
لقاء الكتابة: أناقة الكلمة وعمقها
ثم جاء زمن الكتابة. جلستُ أمام الورق أبحث عن جمالية الكلمة وفنونها، فكانت موهبته ترافقني كما ترافق النغمة العازف الماهر. علّمني أن الكلمة يمكن أن تكون أنيقة بلا تكلّف، عميقة بلا ادعاء، وأنها حين تنبض في القلب قبل أن تُكتب، تصير نصًا أطول عمرًا من صاحبه.
حارس الأصوات: توثيق ينبض بالحياة
لكن هنري زغيب ليس شاعرًا فحسب. هو حارسٌ لأصوات كان يمكن أن تضيع لولا صبره. جمع مئة ساعة من حديث سعيد عقل، نصفها على الورق ونصفها بالصوت والصورة، فكانت حواراته معه أشبه برحلة في نهرٍ لا ينضب. لم يكن يطرح الأسئلة كإجراء، بل كان يفتح نوافذ الذاكرة فيندفع الكلام كما يندفع الماء في موسم الذوبان. ومن عقل إلى جبران، إلى الأخوين رحباني، ظلّ يتنقّل بين القامات الثقافية كما يتنقّل بين بساتين، يقطف منها ما يحمله إلى الغد.
مركز التراث: حيث الماضي لا يموت
ومع إيمانه بأن التراث حياة لا تُحفظ في أدراج، أسّس “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية، وجعل منه ساحة تلتقي فيها الحكاية بالوثيقة، والصورة بالأغنية. هناك لا تُعرض الشواهد لتُنسى، بل لتُروى. يعود الماضي نابضًا، وتستعيد القاعات دفء الأغنيات والوجوه التي حسبناها رحلت.
ضمير ثقافي: بين دقّة الباحث ودفء الشاعر
مع هنري، تدرك أنّه لا يكتفي بالكتابة أو الإدارة. هو ضميرٌ ثقافي، يشد الخيط بين الحاضر والماضي بحبٍّ وخوف معًا؛ خوف أن تُجرح صورة، أو تُشوَّه كلمة، أو يضيع صوتٌ من أصوات الوطن.
هو أيضًا ذلك المثقف النادر الذي يجمع بين دقّة الباحث ودفء القصيدة. في نصوصه تجد السطر الذي يصلح لندوة جامعية، والسطر الذي يُتلى تحت ضوء القمر في أمسية شعرية. المعرفة عنده إنسانية، والشعر عنده واقعي من دون أن يفقد القدرة على التحليق.
مشروع العمر: نهر يبني جسر الذاكرة
يمضي هنري زغيب في مشروعه كما يمضي النهر في مجراه؛ لا يقف أمام الصخور، بل يجعلها جزءًا من موسيقاه. يضيف كل يوم حجرًا جديدًا إلى جسر الذاكرة اللبنانية، جسر سيعبره كل من يريد أن يلتقي لبنان في أجمل وأصدق صوره؛ لبنان الذي يكتبه الشعراء، ويحفظه العشّاق، ويمنحه هنري زغيب قلبه وكلمته معًا.