هل تشير عودة علي لاريجاني إلى تحولات سياسية وأمنية في النظام الإيراني؟

هل تشير عودة علي لاريجاني إلى تحولات سياسية وأمنية في النظام الإيراني؟

بعد تأكيد تعيين علي لاريجاني أميناً للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، يتوقع أن يلعب دوراً محورياً في ملف المفاوضات النووية، خصوصاً في المرحلة التي تلت الحرب مع إسرائيل، وذلك استناداً إلى خبرته السابقة في هذا المجال، ومشاركته في جولات تفاوضية سابقة مع القوى الغربية.

وعلى الصعيد الداخلي، ترجح الأوساط السياسية أن تمثل عودة لاريجاني بوابة لتحولات، وربما إصلاحات (وإن كانت شكلية)، في السياسات العامة، سواء في الجوانب السياسية والأمنية والاجتماعية، أو حتى في الملفات الديبلوماسية والعسكرية. فنهجه الوسطي وابتعاده النسبي عن التشدد، مقارنة بعدد من المسؤولين الآخرين، قد يمنحان الحكومة (النظام) الحالية هامشاً أوسع لإعادة ضبط إيقاعها داخلياً وخارجياً، شريطة توفر الإرادة السياسية وتجاوز العقبات البنيوية في الداخل. 

 

 

يعد علي لاريجاني أول سياسي في تاريخ نظام الجمهورية الإسلامية يتولى منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي لمرتين. وكان لاريجاني قد انضم في شبابه إلى صفوف الحرس الثوري، وتولى خلال الحرب الإيرانية-العراقية منصب مساعد الشؤون البرلمانية في وزارة الحرس الثوري (التي تم حلها لاحقاً)، قبل أن يعين  عام 1989 نائباً لرئيس هيئة الأركان المشتركة للحرس الثوري. 

وبعد استقالة محمد خاتمي من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، رشح الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني علي لاريجاني لتولي المنصب، وهو ما وافق عليه البرلمان من دون اعتراض.

وفي شباط/فبراير 1994، أصدر المرشد علي خامنئي قراراً بتعيين لاريجاني رئيساً لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، وهو منصب شغله لمدة عشر سنوات. وتعد هذه المرحلة من أكثر الفترات التي تعرض فيها لاريجاني لانتقادات حادة، لا سيما أنها تزامنت مع حكومتي محمد خاتمي الإصلاحية وبرلمان إصلاحي، ما جعل أداءه في المؤسسة موضع جدل دائم.

وفي هذا السياق، تعرض لاريجاني لانتقادات شديدة من التيار القومي الفارسي، بسبب تصريحاته التي قللت من شأن “الحضارة الفارسية” قبل الإسلام، حيث قال في ندوة بجامعة شريف الصناعية في طهران عام 2003، إن “الفرس قبل دخول الإسلام كانوا أمة أمية وراضية بأمّيتها”، مضيفاً أن الحضارة الفارسية لم تكن تمتلك أي مضمون أو محتوى حقيقي من دون ارتباطها بالإسلام.

ورأى لاريجاني أن ما يسمى بـ”الاستقلال الثقافي” للحضارة الفارسية قبل الإسلام أمر مبالغ فيه، معتبراً أن الثقافة الفارسية القديمة كانت تقتصر على الرقص والغناء والتسلية، وأن الفرس لم يحققوا أي تقدم علمي أو فلسفي يذكر في تلك الحقبة، باستثناء بعض المهارات العسكرية وصناعة الأسلحة.

وفي عام 2004، سلم لاريجاني رئاسة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون لعزت الله ضرغامي، لينتقل بعدها إلى التحضير للترشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2005. إلا أن حملته لم تحظ بتأييد شعبي واسع، إذ حصل على نحو 5% فقط من مجموع الأصوات، ما حال دون وصوله إلى الجولة الثانية من الانتخابات.

ومع تولي محمود أحمدي‌ نجاد رئاسة الجمهورية، واستقالة حسن روحاني من منصب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، تم تعيين علي لاريجاني خلفاً له، كما أسند إليه منصب ممثل المرشد علي خامنئي في المجلس. وبين صيف عام 2005 وخريف 2007، تولى لاريجاني قيادة الملف النووي الإيراني والمفاوضات مع الغرب. وكان قد وصف في السابق الاتفاق النووي الذي أبرمه روحاني بـ”منح اللؤلؤ مقابل قطعة حلوى”، غير أن انخراطه في مفاوضات مباشرة كشف له تعقيدات الواقع السياسي الدولي، ما دفعه إلى تعديل مقاربته في هذا الملف الشائك والمعقد لاحقاً.

هذا ويرى مراقبون أن تلك المرحلة شكلت نقطة تحول بارزة في الفكر السياسي والمنهجي لعلي لاريجاني، حيث كان قد توصل إلى تفاهم مع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بشأن الاتفاق النووي. غير أن خطاب الرئيس محمود أحمدي نجاد في صلاة يوم القدس، أجهض تلك الجهود الديبلوماسية التي بذلها لاريجاني، ما دفعه إلى تقديم استقالته من أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، ليخلفه في المنصب سعيد جليلي.

ظل علي لاريجاني عضواً في المجلس الأعلى للأمن القومي لمدة 12 عاماً، حتى قرر عدم الترشح مجدداً للبرلمان، مغادراً بذلك المجلس الأعلى للأمن القومي أيضاً. وخلال فترة رئاسته للبرلمان في الدورة التاسعة، تعرض لاريجاني لهجمات وانتقادات حادة من التيار الأصولي، الذي كان يعد من أبرز رموزه. وجاءت أشد هذه الهجمات بعد تمرير الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) داخل البرلمان ذي الغالبية الأصولية، ما جعله هدفاً لغضب ذلك التيار واتهاماته.

ترشح علي لاريجاني للانتخابات الرئاسية عام 2021، لكنه قوبل برفض لافت من مجلس صيانة الدستور، في خطوة أثارت دهشة المراقبين، خاصة أن المجلس أصر على موقفه رغم ملاحظة المرشد علي خامنئي بضرورة تصحيح القرار. والأمر الأكثر إثارة للدهشة كان رفض ترشحه مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية المبكرة لعام 2024، ما زاد من حالة الذهول داخل الأوساط السياسية الإيرانية.

ومع تولي مسعود بزشکیان الرئاسة، كثرت التكهنات حيال احتمال تعيين علي لاريجاني نائباً أول لبزشكيان، إلا أن هذه التوقعات لم تتحقق. ثم عاد اسمه للظهور مجدداً كمرشح محتمل لتولي أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي، غير أن هذا السيناريو أيضاً لم يُكتب له النجاح.

في خضم التحولات الكبرى التي شهدها الشرق الأوسط، والتي شملت اغتيال عدد من قادة “محور المقاومة” مثل إسماعيل هنية في طهران وحسن نصر الله في بيروت، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، الذي كان يعتبر بوابة طهران إلى بلاد الشام، عاد علي لاريجاني إلى الواجهة من خلال قناة الديبلوماسية، هذه المرة بصفته مستشاراً للمرشد علي خامنئي، وهو المنصب الذي كلفه به المرشد بعد خروجه من رئاسة البرلمان.

شكلت زيارات علي لاريجاني للبنان وسوريا، وأخيراً موسكو، أبرز محطاته الديبلوماسية في الآونة الأخيرة، ما اعتبر مؤشراً على دور جديد بدأ يرسم له داخل منظومة الحكم الإيرانية برغبة من المرشد علي خامنئي، وتحركاً لافتاً يعكس إعادة تعريف لوظيفته السياسية.

وبعد الحرب التي استمرت 12 يوماً بين إيران وإسرائيل، شهدت الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني تغييرات جذرية، حيث غادر علي أكبر أحمديان منصبه كأمين عام، وهو الذي عين في عهد الرئيس السابق إبراهيم رئيسي واستمر عاماً إضافياً دون تجديد رسمي في عهد الرئيس مسعود پزشکیان. بذلك، يعود علي لاريجاني إلى الموقع الذي شغله في آب/ أغسطس 2005، مستعيداً مكانته في قلب دائرة صنع القرار الأمني.

ويرى مراقبون أن عودة لاريجاني إلى أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، خصوصاً بعد الحرب الأخيرة، تعكس تحولاً ملحوظاً في نهج النظام على مستويات متعددة من جهة، وحاجة المرشد علي خامنئي لشخصية مثل علي لاريجاني في ظل هذه الأوضاع الحرجة التي يمر بها النظام من جهة أخرى.

في الواقع، بينما تتركز الأنظار على التغييرات المحتملة في الملف الدفاعي والأمني، تبرز خلفية لاريجاني التفاوضية، خصوصاً في الملف النووي، ما يشير إلى احتمال لعبه دوراً محورياً في جولات المفاوضات القادمة، لا سيما في ظل تداعيات الحرب الأخيرة مع إسرائيل. كما تفتح مواقفه المتزنة نسبياً مقارنة بباقي المسؤولين الإيرانيين في القضايا الاجتماعية والسياسية وحتى الأمنية، الباب أمام احتمالية إدخال تعديلات أو “إصلاحات” في السياسات الداخلية والخارجية على حد سواء.

ومع ذلك، تبقى هذه التوقعات مرهونة بمدى قدرة لاريجاني على تنفيذ المهام الموكلة إليه، في إطار مسعى النظام لتجاوز المنعطف الحساس الذي يواجهه حالياً.