وداع النجوم: عادات تقليدية لتكريم الأيقونة

في شباط (فبراير) 1975، غمر طوفان من البشر شوارع القاهرة، قُدرت أعدادهم بـ 4 ملايين شخص، احتشدوا لوداع أم كلثوم في مشهد مهيب. أما جنازة عبد الحليم حافظ، فسادها صراخ جماعي وحالات إغماء، وحالات انتحار بين معجباته أبرزهن فتاة تدعى أميمة (21 عاماً) ألقت بنفسها من مسكن “العندليب” أثناء العزاء، فالحزن عليه لم يكن تقليدياً، بل تجسيد للهوس بأبلغ صورة.
وفي أيلول (سبتمبر) 1997اتشحت عاصمة الضباب لندن بالسواد خلال تشييع الأميرة ديانا، إذ ودّعها نصف مليون شخص، بينما تابع مراسم جنازتها نحو 2.5 مليار حول العالم بحزن عميق. وفي بيروت عام 2014، تحولت جنازة صباح من مراسم تشييع إلى احتفاء بإرثها، بين شدو أغانيها وزغاريد مودعيها، فكانت أشبه بموكب زفاف وليس دفناً. وأخيراً، حظى زياد الرحباني بوداع حاشد ومؤثر، وامتد الحزن من بيروت إلى كل العواصم العربية، ولاسيما منها القاهرة.
الجنازة: ساحة للتقديس الشعبي
لا تمثل تلك الجنازات مجرد مراسم وداع، بل هي مشاهد تفيض بالمشاعر، كاشفةً عن قيمة الفقيد في الوجدان العام، تتدفق خلالها جموع المشيعين ويضيق المكان على سعته، وتعج الشرفات والنوافذ بالمودعين، وتختلط الطقوس الشعبية بالنحيب. كل تلك اللقطات الجنائزية تمثل دليلاً على “المكانة” التي بلغها الشخص الشهير في الوجدان الشعبي، ومؤشراً إلى مدى الهوس بأولئك المشاهير، ما قد يمنحهم سلطة رمزية لم يحظ بها رجال السياسة أو الدين، ولا تغدو الجنازة نهاية بل لحظة تتويج، وتحولهم إلى “أيقونة”.
ويرى الصحافي والناقد سيد محمود أن ظاهرة الهوس بالنجوم طبيعية، وقال لـ “النهار”: “تلك المشاهد هي تعبير عن الارتباط بالفنان وليست قياساً لقيمته. فعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وزياد الرحباني يمثلون حالات استثنائية. فهم فنانون ذوو شعبية كبيرة، حظيوا بإجماع مختلف الطبقات والفئات وإعجابها”.
واعتبر أن زياد الرحباني هو “استثناءً في لبنان؛ لأنه شكل نقطة إجماع التفت حولها كل القوى السياسية المتصارعة والمتناقضة، إذ امتلك خطاباً ثورياً، وكان يسارياً داعماً لحزب الله، ولم ينتم إلى اليمين الديني، فحظي بالإجماع والقيمة الاستثنائية لتعبيره عن “مواقف” وليس عن “مصالح”، وقد يختلف الناس أو يتفقوا مع مواقفه، لكن يظل يقينهم الراسخ أنه لا يتبنى موقفاً من أجل مكسب شخصي بل انطلاقاً من اقتناعات”.
وأضاف أن ذلك ينطبق أيضاً على فنانين آخرين مثل أم كلثوم وعبد الحليم وأحمد زكي وسعاد حسني، فهم شخصيات مهمة وخلافية، لكن الجمهور يؤمن بأن كل ما اتخذوه من مواقف جاء تعبيراً عن نداء ذاتي، لذلك مع لحظات موتهم، يتجاوز الجمهور الخلاف ويتضامن مع الشخص، لأنهم يمثلون ذكرى جميلة، فالناس تذهب لتُشيع ذكرياتها، ولحظات الارتباط مع هذا النجم”. ورأى أن النجوم أكثر حظاً، لإنهم يظلون مخلدين ونستطيع رؤيتهم عبر أعمالهم، وبالتالي يكون غيابهم لحظة موقتة، على عكس البشر العاديين الذين لا يتركون منجزاً.
زياد الرحباني. (أ ف ب)
ما الذي نبحث عنه في الأيقونة؟
الشهرة ليست كافية وحدها لصناعة الأيقونة أو خلق هالة القداسة، فالنجومية قد تتحقق بالمصادفة أو بفعل الموهبة أو بالتريند في الوقت الراهن، لكن الوصول إلى الحالة الأيقونية له أسباب أخرى، فهي مرحلة تصير فيها الشخصية العامة حالة رمزية تتجاوز أعمالها، فتغدو معبرة عن حقبة أو قضية أو إحساس جمعي بالانتماء، وتتحول إلى ضمير أو بطل جماهيري. أو تساهم أعمالها في تشكيل الوعي أو تغيير أجيال. فمثلًا، مثّلت أم كلثوم للجمهور الصوت الذي صاحبهم في لحظات الأمل واليأس والحب والانكسار والانتصار والهزيمة، وكانت رمزاً للعزة والكرامة، خصوصاً بعد هزيمة حزيران-يونيو 67. إذ لم تغن لتُطرب بل لتضمد جروح النكسة، وخصصت عوائد حفلاتها حول العالم من أجل المجهود الحربي وإعادة بناء الجيش، فكانت صوتاً للوطن يوقظ روح التحدي في وقت الانكسار. وهناك زياد الرحباني الذي حل رمزاً متمرداً وساخراً في بلد أنهكته الحروب والصراعات والطائفية، فتجاوزها بمبادئه ومواقفه التي لا تُساوم ولا تُشترى.
لذا، قد يأتي الهوس بالمشاهير أحيانا تعويضاً عن غياب رموز قوية في المجتمع، سواء في السياسة أم في الدين أم حتى في الحياة الخاصة، أو كحنين إلى مجد مفقود وحزن على زمن فائت وذكريات شكلت جزءاً من هوية الجمهور، أو مواقف جريئة لم نجرؤ على اتخاذها وآراء لم نستطع التعبير عنها، وتمتزج مع ارتباطنا بفنه أو منجزه وتصبح جزءاً من حياتنا اليومية. لذلك، عندما يموت، تذهب معه قطعة من ذواتنا التي تعلقت به، ويصبح موته فاجعة شخصية، وهي حالة تعبر عن تعطّش لنموذج “البطل الشعبي”، أو “القديس”، الذي يمثل الأمل.
الأيقونة في زمن “السوشال ميديا”
في العصر الحديث، تلعب مواقع التواصل الاجتماعي دوراً في تضخيم “الهالة” حول بعض الشخصيات العامة، يتذكر سيد محمود أنه شارك كصحافي في جنازتي سعاد حسني وأحمد زكي، حيث كان الحزن حقيقياً وليس مصطنعاً، ومع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، أخذت هذه الصورة الأيقونية شكلا سلبياً، فهناك أشخاص لا علاقة لهم بالنجم يبدون تأثراً رغبة في الظهور أمام الكاميرا من أجل الشهرة والتراند، وبعضهم تحول إلى مجرد “ألتراس”، بينما الجمهور في الماضي كان يتضامن مع ذكرياته.
ورغم حداثة جنازة زياد الرحباني، فإنها حملت صدقية الماضي، ومثلت حالة مختلفة لأسباب عدة، أولها امتداده الراسخ في عائلة الرحباني التي تتمتع بقداسة لدى الجمهور، كما صنع وجود فيروز هذه الحالة الأيقونية، فالجمهور ذهب لتعزيتها. إضافة إلى أن جماهير زياد (خارج لبنان) اعتبرته بمثابة صديق امتلكت ذكرى شخصية معه عبر أعماله، حتى لو لم تلتقه يوماً، ورفيق حياتها اليومية بمواقفه وأغانيه.