لبنان في الفوضى العميقة | النهار

دخل لبنان مرحلة جديدة من التوتر والتجاذب يمكن ان تهدد استقراره وتربك اقتصاده المتعب وتهدد نظامه السياسي وانتظام عمل مؤسساته الدستورية. يواجه البلد معضلة سلاح “حزب الله” وحصرية امتلاك الدولة السلاح وقرار الحرب والسلم، بعد سنوات طوال كان الحزب فيها هو صاحب السلاح والجيش الأقوى وبالتالي القرار. فبعد ضغوط دولية هائلة اتخذ مجلس الوزراء اللبناني قراراً وصفه مؤيدوه بأنه تاريخي يقضي بوضع خطة لتسلم الجيش سلاح “حزب الله” في مهلة اربعة أشهر، الأمر الذي رفضه الحزب معتبراً ان سلاحه هو الورقة الوحيدة المتاحة لمواجهة أي عدوان إسرائيلي.
لقد تركت إسرائيل لأميركا أمر لبنان تفاوضه وتملي عليه الشروط، لم يعد يهمها كثيراً ما يفعله وما لا يفعله، ليس تعففاً ولا كرم أخلاق ولا رغبة في السلام، وليس خوفاً أيضاً. لا تريد إسرائيل وضعاً أفضل لها في لبنان، خصوصاً في جنوبه الذي كان مصدر قلق وتهديد لها منذ انتشرت المنظمات الفلسطينية فيه عام 1967 ثم نشوء المقاومة الوطنية اللبنانية، فالمقاومة الإسلامية بعد اجتياحي 1978 و1982.
خرجت اسرائيل تحت وطاة ضربات المقاومة الاسلامية (حزب الله) عام 2000 مخلية بشكل دراماتيكي الشريط الحدودي الذي كانت تحتله وتقيم فيه “جيشاً جنوبياً” تابعاً لها فرّ معظم ضباطه وعناصره مع الجيش الإسرائيلي المنسحب. في الحرب الاخيرة غيرت إسرائيل استراتيجيتها، لم تحتل الشريط الحدودي، بل دمرته، انتقمت لخروجها المذل عام 2000، وأزالت عشرات القرى التي شكلت الخزان البشري للمقاومة وبنيته العسكرية، انها سياسة الأرض المحروقة. لا مقاومة ولا سكان أصلاً. مازال اهالي القرى الحدودية مشردين في البلد من دون أي امل بعودة قريبة، فلا حل سياسياً في البلد يسمح بإعادة الإعمار ولا غوث من قريب او بعيد، والأكثر خطورة ان القرار ليس محلياً بل هو قرار دولي/إسرائيلي.
فرضت إسرائيل على لبنان (وعلى حزب الله) واقعاً جديداً مختلفاً عما كانت تعتمده في اجتياحاتها وعدواناتها السابقة. هذا الواقع يجعلها قريبة بعيدة. لا قوات لها على الاراضي اللبنانية (باستثناء النقاط الخمس، وهذه لها وظيفة سياسية أكثر من كونها امنية وعسكرية) ولا قوات تابعة عليها تمويلها وتسليحها وحمايتها. وسيطول غياب أهل تلك القرى حتى التوصل إلى حل نهائي للصراع بين لبنان وإسرائيل. ولا تبدو إسرائيل مستعجلة او منهمكة في ذلك. واهم من يعتقد ان إسرائيل يمكن ان تعاني من انهيار اقتصادي او نقص في المخزون العسكري جراء حربها في لبنان او في غزة. فكل ثروات العالم توضع بتصرفها في ساعات، وكل مخازن الأسلحة تفتح لها حتى في الدول التي تعترض على سياسة التجويع في غزة.
تقتضي الصراحة الاعتراف بأن إسرائيل تسيطر على الاجواء اللبنانية بشكل كامل وان البلدر “ساقط” عسكرياً وشبه “مستسلم”، سياسياً وعسكرياً. تضرب اسرائيل كل يوم وفي أي مكان تريده، فلا الدولة قادرة على الرد ولا “حزب الله” يتجرأ (او يقدر). مئات العناصر المسؤولة في الحزب قتلت منذ وقف النار فضلاً عن الغارات على مواقع في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. هذا واقع قائم يطرح على الدولة اللبنانية والحزب تحديات هائلة يتجلى أبرزها في الخلاف على حصرية السلاح بيد الدولة، ما يعني تجريد الحزب من سلاحه الثقيل والمتوسط.
إنها فعلاً معضلة، إذا لم يتم التوافق على حلها فستؤدي إلى صدام محتمل بين الجيش وبين “حزب الله” وبيئته قد تنضم إليه قوى أخرى تدفع باتجاه خطوات جذرية لسحب سلاح الحزب. لهجة قيادات الحزب حاسمة في رفض تسليم السلاح، وقرار الدولة يبدو حاسماً في تسلمه. الطرفان وضعا ظهريهما إلى الحائط، فلا الدولة ستقوم لها قيامة إذا لم تنفذ قرارها ولا الحزب سيحفظ هيبته وموقعه وماء وجهه إذا تخلى عن سلاحه. مهمة تدوير الزوايا باتت اكثر تعقيداً وتنتظر من ينبري لها، من الداخل والخارج، لكن حتى الآن تسير الامور إلى تصعيد في المواقف يجعل البلد المهزوز يهتز أكثر.
لن يمر قرار نزع السلاح بيسر، وهو في المحصلة قرار مفصلي في مستقبل لبنان وعلاقاته العربية والدولية، وتموضعه بالنسبة إلى القضية الفلسطينية التي يراد لها ان تلفظ أنفاسها الأخيرة، وهو إذا نفذ فستكون له تداعياته الكبيرة سياسياً واقتصادياً وأمنيا واجتماعياً، ولهذا سيكون التجاذب حوله كبيراً جداً والأخطار كذلك.
القرار يجب أن يوضع في سياقه الإقليمي أيضاً حيث تمضي إسرائيل، بموافقة اميركية في سياسة تدمير غزة واحتلالها كلياً وفرض الاستسلام عليها، غير عابئة بنداءات العالم وقرارات دوله الاعتراف بدولة فلسطين.
في كل الحالات، نزع السلاح أو بقي، لا دولة في لبنان. الثقب الأسود يبتلعه.