زمان العلمانية… متى ألتقي بك يا بعيد عن الأنظار؟

الاب ايلي قنبر
1.هل تجزَّأ لبنان؟
في رسالته الأولى إلى القورنثيّين، توجَّه بولس الرسول إليهم:”أُحرِّضكم … أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا، وأن لا تكون بينكم شِقاقات، بل تكونوا مُلتَئمين بفِكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحد”. لأنّه قد خبِر أن بينهم “خُصومات”، لا بل انقسام إلى أحزاب: “أنا لبولُس”، أو “أنا لِكيفا” أو “أنا لِأَبُلُّس” أو “أنا للمسيح”. ثُمَّ يسألهم:”هل تجزّأَ المسيح” الذي به اجتمعتُم أوَّلًا؟
نَميل عادةً إلى التعلُّق بالشخص لا بالأفكار، ولأنّا عاطفيّين، نستميت في سبيل الشخص أو “حزب” الشخص الذي نتعمشق به، ولا نعود قادرين على التمييز بينه وبين الأفكار، فنقع في المحظور. وهذا ما يُفسِّر أنّ القورنثيّين – الذين قد قبلوا فكر المسيح يومًا، وتحوَّلوا إليه بعد أن عاشوا وثنيّين لأجيال- لم يفلحوا في تغيير العادات التي درَجوا عليها. لا تتغيَّر الطباع أو تتَحوَّل بسرعة وسهولة … لذا، قد لا يَصِل الشخص أو المجتمع إلى الصواب طالما بقيَ على قديمه بدون التَدقيق فيه بين الفَينة والأُخرى لئلَّا يُضيع البوصلة.
وفي حالتنا اللُّبنانيّة، كيف نَقرأ ؟
في لبنان، تجِد اليوم اللُّبنانيّين منقسمين بشكلٍ حادّ بين فريق يؤيِّد ما يراه “المجتمع الدُوَليّ” وآخَر مُعارضًا له. وكلُّ طرفٍ منهما يرى في الآخَر شيطانًا أخرَس. لمَ وصلنا إلى هنا ؟ وهل الأمر مُستَجِدّ؟
يعود أمر الانقسامات بين اللُّبنانيّين إلى مئات السنين، وغالبًا على أساسٍ طائفيّ. اشتدتّ تلك الانقسامات منذ نظام المتصرِّفيّة في القرن التاسع عشَر، ولمّا يزَل، نظرًا للتدخُّلات الخارجيّة التي استثمرَت في الانقسامات الداخليّة. لقد خُضنا تجربةً جديدة وفريدة مطلع ستّينيّات القرن العشرين مع الرئيس فؤاد شهاب، غير أنّنا أفشلناها إلى غير رَجعة!؟
في أُغنيَة “قُوم فُوت نام وصِير حْلَام”، يُوَصِّف زياد الرحبانيّ حالة البلد، لا بل العالَم برُمَّتِه. هو يرى أنَّا وصلنا إلى حافّة الهاويَة: “قوم فوت نام، وْصِير حْلام، إنو بلدنا صارت بلد”. وبحسَب مسار الأمور منذ مائة سنة حتّى الساعة، لم نعمل لنكون “دولة مؤسَّسات” تستمرّ بحُكم التنظيم الإداريّ والتنمويّ الذي يجفظها لتستمرّ. وللتاريخ، نُحَيِّي ما يُمثِّله الرئيس فؤاد شهاب – الذي “حمَل جِراحَ وهُموم الوطن في سِرِّه، وأبى أن يُعطي لنَفسِه ما لم يُجِزْهُ “الكتاب”[ الموقع الرسميّ للجيش اللُّبنانيّ.]- فعاش زاهدًا بكل مُغرَيات الحياة…”. لقد حاول بناء تلك الدولة عبر أجهزة مختصَّة تمنحها الصَيرورة والمسار السليم. وقَد “شهدت (مرحلة رئاسته) بناء مؤسسات الدولة[ المرجع السابق أعلاه.] وتحقيق العدالة الاجتماعية وإطلاق عجلة النمو والتطور والنهوض بالوطن على المستويات كافة”: من”المشاريع الإصلاحيّة الشاملة، إلى القوانين العديدة التي صدرَت، وإنشاء الأجهزة الإداريَة الحديثة، وتأمين الخدمات العامّة لأرجاء لبنان كافة،كالبنى التحتية والطرقات وإيصال الكهرباء والمياه والتعليم والرعاية الصحيّة، خاصة الى المناطق النائيَة”[ راجع “مؤسَّسة فؤاد شهاب” – “السيرة الذاتيّة”.]. إلَّا أنّ “الإقطاعية السياسية التقليدية(دخلَت في صراعٍ معه)، إذ “شعَر أسيادها أن سيطرتهم على السلطة قد تصبح في خطر”[ المرجع السابق أعلاه.]، فحرّكوا العصبيّات الطائفية لإعاقة مسيرته التَحديثيّة والإصلاحيّة للنظام اللُّبنانيّ. ما حدَا به إلى أن يُعلن في بيانٍ تاريخيّ سنة 1970 “أن تجربته[ المرجع السابق أعلاه.] في السلطة قد أقنعته أنّ شعب بلاده ليس جاهزًا ليتخلَّى عن (الانبطاح أمام) العقليّة الإقطاعيّة والاقتناع بأهميّة بناء الدولة الحديثة”. العصبيّات الطائفيّة هي المُحرِّك الدائم لضرب استقرار البلد: “هَيْ بلد؟ لأ مُش بلد. هَي قُرطِة عالم مجموعين. لأ. مطروحين. لأ. مضروبين. لأ. مقسومين. إيْ قوم فوت نام، وصير حْلام إنّو بلدنا صارِت بلد”. لِمَ ؟ لأنَّا في ” زمان الطائفيّة” … حيث “كلّ واحِد فاتِح بُوتيك”… عِنَّا مَواسم طائفيّة، بِتغيب بتِرجع قويّة. ويا زمان العَلمانية[ “الطائفية تُضيف على كلِّ مشكلة تعقيدًا. لذا يجب أن تصبح العَلمانية صفةً لحلِّ كلِّ مشكلة”.] مِتَّى أشوفَك يا غايب عن عِيني”. لذا، حذَّرَنا زياد، قال: “يا إسلام يا مسيحيّي، انْ ضلَّيتوا بنَفس التكتيك، رح بِصَفّي هالمُواطن وثَني، يهودي .. وكلّ شي فيك”. لكنّ الحَصاد جاء: “قوم فوت نام .. كْدُوش الفرشة. يلَّا قَوام”.
2. “ويا زمان العَلمانيّه مِتَى أَشُوفَك”
في زمان الرئيس شهاب بدأ الفكر العَلمانيّ بالانتشار بتأثير من المطران غريغوار حدّاد من خلال “الحركة الاجتماعيّة”[ لذا كتب عبده وازن جازمًا :”ناضل (المطران غريغوار) في سبيل هذه العلمانية منذ مطلع شبابه الكهنوتي عندما أسس «الحركة الاجتماعيّة» العام 1957 وشاءها للطوائف كافة والمناطق كافة”.] الّلاطائفيّة والّلّاحزبيّة.
هذا، و”لم يتبنّ[ الموقع الرسميّ للجيش اللُّبنانيّ.] (الرئيس) إيديولوجيا سياسيّة معيّنة راجت … ولم ينَخرِط في أيّ حزب عقائديّ أو سياسيّ…، ولا سَعى لتأليف حزبٍ سياسيّ بعد وصوله إلى الحكم”. من هنا استعانته بالأب لُوبْرِي الخبير الدولي بشؤون التنمية الاجتماعية الشاملة” وصديق المطران غريغوار حدّاد.
كان ينبغي للبنان أن يسير في هذا الاتّجاه أبدًا ليَسلم: أن تتحقَّق فيه “استقلاليّة الدولة، والمجتمع، ومؤسساتهما وقوانينهما، وقضاياهما، وسلطتيهما عن المؤسّسات والقوانين والسلطات الدينيّة”. فاقترح له غريغوار حدّاد العَلمانية الشاملة[ على أن يكون تطبيق هذه العلمانيّة الشاملة”تدريجياً عبر عدّة مراحل، بدءاً بإلغاء الطائفيّة السياسيّة ومروراً بإزالة الطابع الطائفي عن المجتمع، إلى علمنة الإدارات والنقابات والأحزاب والقوانين (بالأخص الأحوال الشخصيّة)”] (التي) هي “نظرة شاملة إلى العالم، تؤكد استقلالية العالم ومكوِّناته وأبعاده وقيمه بالنسبة إلى الدين ومكوِّناته وأبعاده وقِيَمِه”.. وبالطبع، “يعي[ أنطوان فليفل، غريغوار حدّاد: النزعة العلمانية في الفكر المسيحي في لبنان، الأخبار، 18. 03. 2010
] (غريغوار حدّاد) صعوبة تحقيق مشروع كهذا، لكنّه يؤمن بإمكان إنجازه. فعل إيمانه مبني على قابليّة الإنسان للتطوّر، وعلى قراءة تاريخيّة تظهر تحوّل الكثير من المجتمعات من دينيّة إلى عَلمانيّة”. فهل لدى مجتمعنا اللُّبنانيّ قابليّة للتطوّر في هذا الاتِّجاه؟