زياد… غادر الدنيا لكنه خالد في قلوبنا

زياد… غادر الدنيا لكنه خالد في قلوبنا

 ندى أشرف رمزي – مصر

 

 

 عشرة أيام منذ رحيل زياد الرحباني، ولا يزال الألم في قلوب محبيه هو ذات الألم، لا الغصّة تختفي ولا الدمع يجفّ، فما انفَكَّت الأغنيات تُصاحبني منذ بداية يومي وحتى نهايته، ومقاطع لقاءاته التليفزيونية تتصدر مشاهداتي على مواقع التواصل الاجتماعي-حتى وإن كانت مُكَرَّرة- وصوته الأجشّ لا يبرح أُذنيّ مهما حاولت طمسه أو حَجْب صداه بأصواتٍ أخرى. ما زلتُ أذكُر ما حدث في اليوم الخامس عقب وفاته، حين ظننتُ أنني قد استنفدت كل ما اختزنته مُقلَتَيّ مِن عَبَراتٍ، إلى أن هزمني صوته القادم مِن بعيد في بروفة أغنية “كيفك أنت”، لأشعر آنذاك بشوكة تخترق حَلقي وعينيّ، فتكسوهما سحابة كثيفة مِن الدَمْع حالَت في لحظةٍ ما دون رؤيتي أثناء القيادة، وهو ما أثار دهشتي للغاية، بل ربما وجدته مدعاة لتأمُّل هذه الحالة العجيبة التي لم تتمَلَّكني فحسب، بل تغلغلت في داخلي، فقد أكون تأثرت لرحيل فنانين كُثُرٍ مِن قَبْل، وربما بكيتُ بعضهم أيضًا، ولكن مع زياد، كان هناك شيء مختلف… مُختَلِف لدرجة بَدَت مُفاجِئة حتى بالنسبة إليّ، وكأنه بِقَدْرِ ما كان استثنائيًا ولا يُشبِه أحدًا؛ كان من المنطقي -بل والبديهي- أن يكون الحزن لرحيله أيضًا ذا طابع خاص، حزن كبير وعميق يليق بعظمته كإنسان، قبل أن يكون فناناً ذا بصمة خاصة، سيظلّ أثرها مطبوعًا بذاكرة ووِجدان أجيال وأجيال.

 

 

 

 أحببتُ زياد بذات الطريقة التي أحببتُ بها بليغ حمدي. يبدأ الأمر بسماعي لأغنية يعلق لحنها بأذنيّ، ولا يغادرها لأيام، وتلمس كلماتها وَتَرًا حَسّاسًا أو جُرحًا غائرًا في داخلي، فأبحث عن صانع هذا الإبداع الفريد، لأجده زياد. في كل مرة كان زياد، ذلك الأمر الذي جعل دائرة البحث تتسع شيئًا فشيئًا، لتشمل أغنياته الشخصية وسائر ألحانه؛ لذا لم يَكُن حبي له وتقديري لفنه وشخصه، على حد سواء، وليد لحظة تأثُّر لرحيل مُبدِع كبير أو فنان شهير، بل كان نَتاج سنواتٍ طويلةٍ مِن الوَصْل والتعلُّق بأعماله، التي لطالما كانت مؤنِسَتي في ليالي الأرق ومشاعر الحب الأولى وكسرة القلب، والانهزام والتمرُّد والتحليق أحياناً؛ وكأنه بات بمرور الوقت -ودون أن يدري- شاهِدًا على مراحل حياتي كافة، يؤرّخها بألحانه، ويصف ما يختلج في ثنايا قلبي مِن مشاعر مضطربة ومتناقضة بكلماته التي كثيرًا ما كانت تُفاجئني بتفسير ما عجزتُ أنا عن فهمه عن نفسي.

أكثر ما آلمني، عقب رحيل زياد الرحباني، أنني لم أتمكَّن من تشييع جثمانه كما فعل سائر مُحبّيه. لم أقف بينهم لأودعه بينما أنا أغني معهم “سألوني الناس عنك يا حبيبي”، أو أُلقي الورود على نعشه مثلهم. لم ألتقِ به أو أحضر له ولو حفلًا واحدًا. كان حضوره على رأس قائمة أمنياتي، ولم يَعُد بإمكاني أن أنتظر لحنًا جديدًا مِن تأليفه، كما حدث مع ألبوم “إيه في أمل”، الذي ظللتُ أستمع إليه دون غيره عقب صدوره لثلاثة أشهر متواصلة.

 كنتُ أتمنى لو استطعتُ أن أتحدث إليه، لو أذاقني من سخريته اللاذعة أو خاض معي نقاشًا جادًا ذات يومٍ، لو أخبرته أنه كان دومًا حاضِرًا بفنه رغم الغياب، وأنني كنتُ أتمنى لو صرنا صديقين، نتبادل الأحاديث والمزاح أحيانًا، ونستعين معًا بالفن على ملء تجاويف الروح و فَتح طاقة نور تُضيء المناطق المُظلِمة في داخلنا، وتبعث الأُنس في أكثرها وحشةً. ولكن مع الأسف لن يحدث أيٌ مِن ذلك، ففي حَضرة الموت، تُصبِح الأمنيات بمثابة نُصُبٍ ثابتٍ أمام أعيننا، ليُذَكِّرنا دومًا بحُلمٍ بعيدٍ لقى حتفه على عتبات الواقع، وعقد آمال انفرطت حَبّاته واحدة تلو الأخرى، لتسقُط أمام شاهد رخامي وتتبعثر وسط حفنة تراب.

جعلني رحيل زياد الرحباني أُدرِك أن أكثر ما يؤلمني بشأن الموت ليس الغياب نفسه بِقَدْر الحسم فيه، وأن يكون الرحيل قاطِعًا كسيفٍ، فما مِن رادٍ لضربته، ولا سبيلٍ لوَصْل ما قطعه، فلا يَعود هناك أمل في مواعيد مُنَظَّمة أو صُدَف مُحتَمَلة، لا أحاديث تُستَأنَف مِن حيث توقَّفَت ولا مكالمات هاتفية تُبَدِّد الخصام مع أول “ألو”، فلا الندم يُشَكِّل فارِقًا، ولا كلمات الحب والتقدير التي أتت متأخرة تغيّر شيئًا، ثم نجد أنفسنا آنذاك نتمنى لو يصل الغالون الذين رحلوا عن عالمنا… وربما هو ذات السبب الذي جعلني بعدما كنتُ أوَدّ زيارة بيروت لعلّي أُصادف زياد الرحباني في أحد مقاهي شارع الحمرا التي اعتاد أن يتردد عليها، أرغب أكثر الآن في الذهاب إليها، لعلّي ألتقيه عند قبره، حيث يرقد الجسد وتحوم الروح، لأرى طيفه وأتلَمَّس أثره في الأزقة والمقاهي وشرفات المنازل التي سيظل صدى ألحانه ينبعث من أرجائها، مثلما سيبقى هو حيًا في قلوبنا، وإن مرَّ على رحيله عشرة عقود، لا عشرة أيام فقط.