الشخصية البارزة للبارزاني الأب: صلة الجبل والشجر في رواية تستعرض لحظاته الأخيرة في واشنطن

الشخصية البارزة للبارزاني الأب: صلة الجبل والشجر في رواية تستعرض لحظاته الأخيرة في واشنطن

إبراهيم اليوسف – شاعر وروائي كردي سوري – ألمانيا

 

 

اسم الكتاب: الجنرال في آخر معاركه
الكاتب: جان دوست
دار النهار للنشر – بيروت 2025
تصميم الغلاف: إليز بشعلاني أبو عيسى
صورة الغلاف: جزء من لوحة الفنان    Jilamo 

لا تعد كتابة الرواية عن شخصية تاريخية بحجم ملا مصطفى البارزاني مجرد مغامرة فنية، بل فعل ينطوي على مسؤولية أخلاقية وثقافية معًا. فالزعيم الذي حمل السلاح دفاعًا عن قضية شعبه، في مواجهة قوى إقليمية ودولية، لم يكن اسمًا في سجلٍّ سياسي، بل رمز لحلم لا يزال حيًّا في الذاكرة، ويعيش في وجدان شعب بأكمله. من هنا، تأتي رواية “الجنرال في آخر معاركه” للروائي جان دوست، بوصفها محاولة سردية خاصة للعبور نحو هذا الرمز، لا عبر معاركه أو إنجازاته العسكرية، بل من خلال لحظة السكون التي سبقت غيابه الجسدي، تلك اللحظة التي تختبر المعنى الحقيقي للبقاء، ليس في الجسد بل في الأثر الذي تركه وراءه.

 

 

 

الرواية لا تسلك دروب البطولة التقليدية، ولا تعتمد على الاستعراض، بل تقترب من البارزاني كإنسان يقاوم النسيان، ويدافع عن قضيته في الوقت الذي تضعف فيه الحواس، لكنها تقوى فيه الذاكرة. ليست رواية عن مناضل عالمي فحسب، بل عن الكبرياء الإنساني، وعن الشجاعة الهادئة في مواجهة التلاشي. منذ الصفحات الأولى، لا يُمنح القارئ مشهدًا بطوليًا، بل لحظة فقد تُذاع عبر مذياع في بارزان: “توقف قلب الجنرال مصطفى البارزاني مساء أمس”، فتُقابل بالإنكار القاطع. يصرخ رفيقه “حاجي محك”: “كذب… البارزاني لا يموت. الشجرة لا تسقط، حتى لو سقطت أوراقها”. بهذا الإنكار، يفتتح جان دوست فضاء الرواية: ليس موتًا بل  هو رفضٌ لأن يغيب الرمز. يرقد البارزاني في مستشفى جورج تاون بواشنطن، باسم مستعار، محاطًا بالغربة. لكن ما تبقى في الذاكرة لا يُمحى، وما تفيض به الرواية ليس عن رجل يحتضر، بل عن شخصية ظلّت حية في ضمير شعبه، وكل الذين آمنوا بقضيته.
كتابة الرواية التاريخية لا تقاس بدقة المعلومات وحدها، بل بقدرة السرد على خلق أثر لما سبق أن عُرف. التاريخ قد يُحفظ في الكتب، لكن الرواية تحاول أن تكتبه في القلب. جان دوست لا يكرّر المعارك الكبرى للبارزاني، بل يكتب عن أحوال الجسد، حين لا يعود في اليد سلاح بل ورقة بلوط. يطلب الجنرال من حفيده أوراق بلوط، يشمّها ويتمتم: “ولدتُ تحت هذه الشجرة، وأريد أن أغفو قربها”. العودة هنا ليست جغرافية، بل روحية: إلى الأصل، إلى الذات، إلى الأرض التي لا تغيب مهما ابتعدت المسافة أو اشتد المنفى.
حين يكتب جان دوست عن البارزاني، فهو لا يكتب عن رمز كردستاني فحسب، بل عن سيرة كفاح شعب بأكمله. الرواية لا تضعه في موقع الأيقونة المحنطة، بل في موضع الشاهد الرمز، الذي رأى، وصبر، وواجه، وظلّ واقفًا رغم الانكسارات. ومن خلال هذه الشخصية، تُفتح نافذة على قضايا الشرق الأوسط، وما فيها من مؤامرات وخيانات مستمرة، ووعود كاذبة. يهمس البارزاني في لحظة وعي جارحة: “حتى النور قد يكون فخًا. المصحف الذي أهداه مصطفى كمال كان خديعة مختومة باسم الله”. لا يُقال كلام في السياسة، بل تُقال الحقيقة في القلب: من واجه الطائرات والاتفاقيات، لم يُخدع بالسلاح بل بما ظنه نصيرًا للعدالة.
لغة الرواية لا تبحث عن الزخرف، بل تسير نحو اقتصاد شعوري حاد. حين يقول البارزاني لحفيده: “هل غابت الشمس؟”، فهو لا يعني الضوء، بل شريط العمر. اللغة لا تصف البطل بل تنقله إلى القارئ كأنه جالس معه، لا في بارزان فقط، بل في زاوية القلب. لا يحتاج القارئ لمعرفة تاريخ كردستان ليشعر بالألم، بل يكفيه أن يدرك أن البارزاني يمثل إنسانًا حُرم من أرضه وصوته، وبقي مؤمنًا بأن ما لا يُقال أحيانًا أبلغ من كل الشعارات.
الرواية مبنية على صدمات تُقال بصمت. ليست اللحظة الدامية، بل بيع الفرس نارين. يقول: “كانت نارين تنظر إليّ كأنها تسألني: لماذا؟ ولم أملك جواباً. فقط كنت أعرف أنني خنتها”. تلك هي الصدمة: أن يُجبر من لم يساوم يومًا على بيع جزء من قلبه. ثم صدمة خذلان الآخرين، والوعود، و”هدية” المصحف. يطلب بندقيته “البرنو”، لا ليقاتل بل ليلمُسها: “أردت أن أعرف إن كنتُ ما زلت أنا”.
الرواية تنتهي كما بدأت: بأثر مدوٍّ. يغفو الجنرال وأوراق البلوط في كفه، وفي السماء شهاب. يقول فرهاد: “لم يقل شيئاً، فقط أمسك بالأوراق. وعرفت أنه عاد إلى الجبل”. الشجرة لا تُستعاد كذكرى بل كرمز للثبات، والشهاب توقيع السماء على رجل لم تُكتب له الأرض خاتمة.
هكذا، فإن رواية جان دوست لا تستعيد الحكاية بل تُعيد إنسانيتها، وتُعيد البارزاني إلى مكانه الطبيعي: الذاكرة والقلب. العمل لا يُنهي الحكاية، بل يُبقيها معلّقة بين القارئ والهواء، تُقرأ كصلاة، وتُحفظ كنداء.