ذاكرة الهاتف مكتظة… هل تُفقدنا الصور لحظاتنا الثمينة؟

ذاكرة الهاتف مكتظة… هل تُفقدنا الصور لحظاتنا الثمينة؟

“كنت كون مستعجلة وعم عيش اللحظة”، تقول دينا، قبل أن تلاحظ لاحقاً أن ذاكرتها أصبحت أضعف.

 

تضيف: “خاصة في عصر السرعة وبعد كورونا… قررت أن ألتقط صوراً أكثر. وعندما أحنّ إلى ذكرى معيّنة، أعود إلى مقاطع الفيديو بالتحديد، فتعود إليّ نفس المشاعر التي أحسست بها عندما كنت أعيش تلك اللحظة”.

 

وترى دينا أن التوازن ممكن بين التقاط الصور وعيش اللحظة، رغم أنها تشير ممازحة إلى أن ذاكرة هاتفها تخطّت سعة الـ 256 غيغابايت، وتنصح باقتناء هاتف مخصّص للتصوير فقط.

 

في عام 2025، من المتوقّع أن تلتقط البشرية نحو 2.1 تريليون صورة، بحسب موقع بيانات التصوير الفوتوغرافي  Photutorial، مما يعني أننا نلتقط عالمياً 5.3 مليارات صورة يومياً، أو نحو 61,400 صورة في الثانية.

 

لكن، هل لهذا الكمّ من الصور تأثير فعليّ على ذاكرتنا؟

 

تعبيرية (انترنت)

 

الذاكرة ليست كاميرا
تشير الباحثة جوليا سواريس، المتخصصة في دراسة تأثير التقنيات الرقمية على الذاكرة، إلى أن أجهزتنا الذكية غيّرت الطريقة التي يعمل بها دماغنا.

 

في تجربة علمية، طُلب إلى مجموعة زوار في متحف فني التقاط صور للأعمال التي يشاهدونها، فيما طُلب إلى مجموعة أخرى الاكتفاء بالمراقبة. النتائج أظهرت أن من لم يلتقطوا صوراً تذكّروا التفاصيل البصرية بشكل أفضل وأجابوا بدقة أعلى عن الأسئلة المتعلقة بالمحتوى.

 

الذاكرة الذاتية (تذكُّرُنا للأحداث الشخصية) لا تعمل كما الكاميرا. توضح الأبحاث العصبية بأن هذا النوع من الذاكرة يعتمد على تفاعل معقّد بين الحصين (الذي يثبت التجارب الجديدة) وقشرة الفصّ الجبهيّ (التي تنظمها ضمن سرد متماسك).

 

تقول سواريس: “ذاكرتنا ليست موثوقة. إنها مرتبطة بشخصيتك، وبالقصص التي تصنعها طوال حياتك. إنها سيرتك الذاتية”.

 


المصور نبيل اسماعيل: الذكريات ليست أعمدة بعلبك… وحتى الأعمدة تتغير. وحدها الصورة لا تتغير

 

حين تصبح الصورة بديلاً عن الشعور
في دراسة أجريت عام 2013، تبيّن أن تصوير الأشياء قد يضعف الذاكرة، إذ يلجأ الناس إلى الاعتماد على الكاميرا “لتتذكر” نيابة عنهم. لكن عندما يتفاعل المصوّر مع ما يلتقطه، تتحسّن قدرته على التذكّر.

 

يقول فابيان هوتماخر، عالم النفس في جامعة فورتسبورغ: “إذا قضيت 90 دقيقة في حفل موسيقي تبحث عن أفضل زاوية للتصوير، فإنك تقلّل من استمتاعك ومن ذكرياتك عنه. أما إذا وثّقت لحظة مرتبطة بعاطفة قوية، مثل أغنية مفضّلة، فإن ذلك يمكن أن يعزّز الذاكرة لاحقاً”.

 

ويضيف أن الصور لم تعد فقط وسائل لاسترجاع الذكريات، بل أصبحت جزءاً من كيفية تكوين الذكريات نفسها. نحن لا نتذكّر فقط ما نخزّنه في عقولنا، بل ما نحفظه على هواتفنا. صحيح أن تخزين الصور يقلّل من العبء الذهني، لكنه قد يُضعف التذكّر ما لم نُراجع تلك الصور لاحقاً.

 

تنظيم الصور = تنظيم الذاكرة
معظم الناس لا يكررون النظر إلى صورهم بانتظام. ومن دون مراجعة أو تنظيم تصبح الملفّات مربكة، ويصعب تمييز الصور ذات المعنى. تقول سواريس: “الصور قد تكون كزهرة ذات شوكة. إنها توفر إشارات رائعة للذاكرة، لكن إن لم تراجعها، فقد تفقد جزءاً من تجربة التوثيق نفسها”.

 

ويبدو أن النسيان ليس خللاً في نظام الذاكرة، بل جزء أساسي من طريقة عمله. في زمن الصور الرقمية، ما نختار توثيقه أو حذفه يعيد تشكيل ذاكرتنا بصمت. فمشاركة الصور على وسائل التواصل تُعزّز من تذكّر التجربة، بينما أظهرت دراسة أجرتها سواريس عام 2023 أن حذف الصور قد يجعل الذكرى أقلّ وضوحاً.

بعض المشاركين في الدراسة حذفوا عمداً صوراً من تجارب مؤلمة، كصور حبيب سابق أو ليلة سيئة، في محاولة لمحو الذاكرة.

 

رأي


“تعا ولا تجي”… بين الإضراب والترويج هل يُطرد السائح من لبنان؟


لم يكن الأسلوب لطيفاً. سألته عن السبب، فأجاب: “عالمعاشات الحلوة”

 

نبيل إسماعيل: حتى الأعمدة تتغير
يقول المصوّر الصحافي نبيل إسماعيل: “توجد أحداث كثيرة في حياة المصوّر لا تُسجَّل في ذاكرته، ويكون عمرها قصيراً، لأنها لا تعني له شيئاً، بينما تظلّ أشياء أخرى عالقة لأنها كانت مهمة بالنسبة إليه في لحظتها. ولا شكّ في أن الصورة تُعيد نبش الذاكرة، لأن الصورة المطبوعة حين تعود إليها العين، تُستَرجَع معها التفاصيل، والتاريخ، والشعور الذي اختبره المصوّر في تلك اللحظة”.

 

ويضيف: “الصورة المهمة التي تبقى في ذاكرة المصوّر قد لا تحتفظ بكلّ تفاصيلها، لكن حين يراها من جديد، فهي تعيد إليه كلّ التفاصيل المدفونة. هذه هي العلاقة العميقة بين الصورة والعقل. هناك تفاصيل لأحداث مهمة تبقى محفوظة في الذاكرة، لكن الذاكرة لا تُعيد تكرار الحدث بكل أبعاده؛ وحدها الصورة تُجبِر العقل على استعادة كلّ ما وُجد في مقدّمته أو هامشه”.

 

المصوّر الصحافي نبيل إسماعيل (مواقع)

المصوّر الصحافي نبيل إسماعيل (مواقع)

 

يتابع: “الصورة مهمّة جداً في حياتنا. ولا أتحدث فقط عن صورة مؤلمة أو مفرحة، بل عن أي صورة تُكوّن علاقة ما بين عقل المصوّر والصورة ذاتها. فالكاميرا هي وسيلة الربط ما بين العقل والحدث”.

 

ويشرح إسماعيل كيف يخزن الدماغ الحدث:”عقل الصورة عقل مسطّح، وليس عقلاً عميقاً. يخزن ما هو مؤلم أو مهم في المقدّمة، ويُرسل ما هو ثانوي إلى القعر. بحسب اعتقادي، يملك العقل نظام تحليل خاصاً، يضع الأحداث ذات المعنى في الواجهة، ويخزّن غير البارزة في العمق. العقل يُخزن الحدث بشكل عمودي، بينما الصورة تُخزن بشكل أفقي ومتساوٍ. عندما تنظر إلى الصورة، تتذكر كل شيء، وتُعيد نبش كل ما هو مخبّأ في داخل العقل”.

 

ويختم إسماعيل قائلاً: “حين تخزّن الذاكرة البشرية حدثاً ويعيد الإنسان سرده، حتى بعد خمسين عاماً، فلا بدّ أن يُضيف شيئاً من عنده. هذه الإضافة هي شعوره اللحظيّ عند استعادة الذكرى. إنها عملية تفاعل لحظيّ بين الماضي والحدث المعاد بناؤه. فمفاهيمنا ومشاعرنا تتبدل مع الوقت، نُضيف ونحذف من دون أن نشعر.

 

الذكريات ليست أعمدة بعلبك… وحتى الأعمدة تتغير. وحدها الصورة لا تتغير؛ الزمن، التفاصيل، المكان، الأشخاص في الصورة… كلهم يظلون كما هم، لا يتبدّلون، ولا ينحازون، لأنهم خارج الشعور”.