جنون القوى الكبرى: بين “استراتيجية التهديد” و”الأسلوب القاتل”!

جنون القوى الكبرى: بين “استراتيجية التهديد” و”الأسلوب القاتل”!

أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنشر غواصتين نوويتين في “المناطق المناسبة”، عقب تصريحات “استفزازية جداً” لنائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف. ترامب وصف تصريحات ميدفيديف بأنها “حمقاء ومُحرضة”، مضيفاً أن نشر الغواصتين خطوة احترازية، خشية أن تكون التصريحات أكثر من مجرد تهديدات كلامية!

يأتي ذلك وسط تصاعد التوترات بين الدولتين، مع تهديد ترامب بفرض عقوبات على روسيا والدول التي تشتري غازها ونفطها، ومنحها مهلة 10 أيام لوقف الحرب مع أوكرانيا. ورد عليه ميدفيديف بأن تهديد ترامب بمعاقبة روسيا ومشتري نفطها “لعبة إنذارات”، وخطوة أقرب إلى حرب بين روسيا والولايات المتحدة، مذكراً الرئيس الأميركي بأن موسكو تمتلك قدرات نووية تعود الى الحقبة السوفياتية، وأن يدرك مدى خطورة “اليد الميتة الأسطورية”، في إشارة الى نظام قيادة روسي “أوتوماتيكي” مصمم لإطلاق الصواريخ النووية، حتى في حالة تصفية القيادة الروسية بضربة قاضية من عدو. ميدفيديف سخر من وصف ترامب لروسيا والهند بالاقتصادات الميتة، ونصحه بأن يستعين بأفلامه عن “الموتى الأحياء”، لافتاً إلى أن موسكو مستمرة في سياستها الحالية. لا فرق كبيراً بين ترامب وميدفيديف، كلا الرجلين يشغل العالم بمواقفه غير المتوقعة، وتصريحاته النارية غالب الأوقات على وسائل التواصل الاجتماعي، ما ينذر بأنهما قد يشعلان حرباً عالمية ثالثة، من دون أن يهتز لهما جفن، ولو من دون قصد.

حالة جنون ترفع منسوب الخطر، لكن بغضّ النظر عن رعونة ترامب وميدفيديف، فإن النمط السائد سلوك الدول العظمى هو رغبتها الدائمة في إضعاف المنافسين، ولو بالقوة التي تعتبرها أساس بقائها. يرى جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، في كتابه “مأساة سياسات القوى العظمى” أن الأساس الذي تعتمد عليه القوى العُظمى هو القوة والهيمنة، تدافع عن مصالحها في مناطق نفوذ خارج حدودها وعلى حساب الآخرين، لذا تعمل على زيادة قواها الشاملة، بطريقة عدوانية وتنافسية، للحفاظ على سلطانها، في عالم لا يعرف سوى “شريعة الغاب”، ما يخلق معضلات أمنية وحروباً ومآسي إنسانية.

كان ميرشايمر قد “تنبّأ” بحرب الغرب مع روسيا في قلب أوروبا، وهو ما حدث في الحرب الأوكرانية. اتهم ميرشايمر الغرب بالإخلال بالوعد الذي قطعه الأميركيون للاتحاد السوفياتي السابق بعدم التمدد شرقاً، مشيراً إلى مخططات “الناتو” لإنشاء حائط صدّ على حدود روسيا، ما دفعها إلى التنبه، وهذا يتناقض مع “مبدأ مونرو” الذي لا يقبل الأميركيون انطلاقاً منه، أن تأتي قوة مسلحة لتقيم لها وجوداً على حدودهم… وعليه يتساءل: أليس من الأجدى للأميركيين أن يُخرجوا الخشبة التي في أعينهم، قبل أن يطالبوا بإخراج القذى الذي في أعين غيرهم؟

تتمتع الولايات المتحدة وروسيا بقدرة هائلة على إظهار القوة عبر المحيطات، وما نراه من تراشق بين واشنطن وموسكو يكشف أنهما لا تزالان تتصرفان وفقاً لمبادئ الواقعية الهجومية، ترغبان بإظهار تفوقهما على القوى المنافسة. وبالنظر إلى أن كلا العمق الاستراتيجي للطرفين يتقاطعان في مناطق عدة بالعالم، فإن اشتعال المواجهة بينهما قد يحدث ولو بشكل عرضي.

لا تتسامح الولايات المتحدة مع ظهور منافس لها. تبذل جهدها لتقييد تحركات روسيا والصين وقدراتهما، ولو بالمواجهة العسكرية، بيد أن ميرشايمر – في كتابه – يدعو الأميركيين إلى أخذ روسيا إلى جانبهم، كجزء من التحالف المتوازن ضد الصين، عوضاً عن “السياسات الحمقاء” التي دفعت الروس إلى أحضان الصينيين، ما ينتهك توازن القوى، ويُضر بالحضور الأميركي في العالم. وهو ينبه إلى أن الصين بصفتها قوة صاعدة، ستخلق حقبة جديدة من التاريخ تشوبها المواجهات الدامية، لأنه نادراً ما تكون “تحولات الهيمنة سلمية”، أي عندما تبدأ قوة صاعدة بمقارعة القوة المهيمنة، فإن الحرب هي نقطة التحول الحتمية لإعادة تعريف موازين القوى، استناداً إلى “فخ ثوسيدس”.

يمكن للصراع بين القوى الكبرى أن يتحول إلى عملية “استنزاف طويل”، من أجل السيطرة والهيمنة. وهذا يحدث اليوم في أوكرانيا، “كارثة عالمية هائلة” تحتاج إلى التوقف أمامها، لكن الثابت أن سلوك القوى العظمى – وفقاً لتفسير ميرشايمر – يقوم على فرضيات عدة: الأولى العدوانية والتنافسية؛ فالنظام الدولي بلا قيود، لذا تصبح القوة هي القانون. والثانية أن هذه الدول تمتلك قدرات عسكرية هائلة تمكِّنها من إيذاء أو تدمير بعضها بعضاً، وتنظر إلى القوة بصفتها “الحصان الرابح”، والثالثة أن نيات الآخرين غير معلومة، لذلك تمثل القوة أداة وجود وردع، والرابعة أن القوة أداة صون للاستقلال والنظام السياسي والحفاظ على المصالح. ويستخلص ميرشايمر أن الأنظمة الدولية المتعددة القطب باتت ضرورة للاستقرار العالمي، وإن كان بعيداً في ظل التلويح بالأسلحة النووية بين الكبار والصغار، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.

يقول ألدوس هكسلي إن “أهم درس يمكن أن نستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيراً من دروس التاريخ”!