بلند الحيدري وأصيلة في ذكراه… حيث تستمر الحياة.

في السادس من آب / أغسطس 1996 توفي الشاعر العراقي الكبير بلند الحيدري في لندن إثر عملية جراحية في القلب لم تكلل بالنجاح. لكن علاقته مع الموت سبقت رحلته الأبدية وبدأت قبل هذا التاريخ؛ إذ أعلنت صحف ومجلات وفاته مراراً، وهو لا يزال حياً يُرزق.
مرة، نشرت صحيفة خبراً عن وفاته جرّاء انفجار سيارة ملغومة في بيروت. وفي مناسبة أخرى، نعت مجلة عربية “أبو عمر”، في وقت كان فيه موجوداً بمدينة أصيلة المغربية، مشاركاً في فعاليات موسمها الثقافي الدولي الخامس، حيث ألقى محاضرة بعنوان: “السياب والحيدري والملائكة، ما لهم؟ وما عليهم؟”.
أُصيب الحيدري بالوجوم حين ناوله أحد الأصدقاء نسخة من المجلة ليقرأ نعيه، ثم طفق يضحك ضحكة ملؤها التعجّب والاستغراب، في حين كادت زوجته السيدة دلال المفتي أن يغمى عليها. علّق بلند على خبر موته قائلًا: “غريبٌ أمر هؤلاء… إنهم يتعجّلون موتي، بينما الأعمار بيد الله”.
وإذا كانت قصص موت الحيدري هذه مجرد “كلام جرائد”، فإن وفاته كادت أن تصبح، في مناسبة أخرى، حقيقة ملموسة ومادة دسمة للصحف. لم يخيِّم شبح الموت حينها على بلند وحده، بل شملني أنا أيضاً، ومعنا عدد لا بأس به من المثقفين والصحافيين العرب.
في عام 1987، شهد موسم أصيلة الثقافي التاسع تنظيم ندوة حول المثقفين العرب المغتربين. ووجّه لهم وزير الدولة آنذاك، الراحل مولاي أحمد العلوي، الذي كان صديقاً وفياً لأصيلة ومواظباً على حضور مواسمها الثقافية، دعوة لزيارة مدينة فاس لتفقُّد معالمها الحضارية والتاريخية. وقد حظيتُ بشرف مرافقتهم، وكان الحيدري من بينهم.
انطلقت بنا حافلة خاصة من أصيلة باتجاه فاس. لم تكن الطرق السيارة في المغرب قد أنشئت بعد. وعند وصولنا إلى منتصف الطريق الرابط بين مدينة القصر الكبير وبلدة سوق الأربعاء، لمحنا حاجزاً أمام سكة الحديد التي تخترق الطريق. ولما اقتربنا منه، ضغط السائق على الفرامل، لكن الحافلة رفضت التوقف، فانطلقت باتجاه الحاجز الخشبي، واخترقته كأنها حافلة انتحارية، ومضت في طريقها إلى أن توقفت بعناية الله. من حسن حظنا أن القطار كان متأخراً عن موعد عبوره، فنجونا جميعاً من موتٍ كاد أن يكون محقّقاً.
غيّر بلند الحيدري رأيه، وبدت له هذه الرحلة مشؤومة، فقرّر العودة إلى أصيلة، ووقف على الجانب الآخر من الطريق، منتظراً سيارة تُقله. أما باقي المدعوين، فقد قرروا مواصلتها بيد أنهم انتظروا طويلاً إلى أن وصل ميكانيكي لإصلاح خلل الفرامل.
انطلقت الحافلة مجدداً، بعدما ألحّ أغلب الركاب على السائق ألّا يتجاوز سرعة 40 كيلومتراً في الساعة، فبدت على الطريق كأنها سلحفاة، واستغرقت رحلتنا نحو عشر ساعات.
حين وصلنا إلى فاس، أنسَتنا حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة ذلك الحادث المروّع، وقضينا يومين ممتعين فيها، وإن لم ننسَ أن الساعة آتية لا ريب فيها.
وبعد تسعةٍ وعشرين عاماً على رحيله، لا يزال الحيدري حاضراً في أصيلة من خلال حديقة تحمل اسمه، وإطلاق جائزة للشعراء العرب الشباب، تحمل اسمه أيضاً.
في عام 1989 توفي الشاعر الكونغولي فليكس تشيكايا أوتامسي الذي ربطته به علاقة صداقة، وألقى الحيدري في أصيلة قصيدة رائعة هزت وجدان كل من سمعها أو قرأها، أعطاها عنوان “وأصيلة إذ تحيا… أحيا” قالها في رثاء الشاعر أوتامسي، جاء في بعض مقاطعها:
“تشيكايا لا تمضِ/ يا من أحببت بوهجك كل الأرض/ لا تمضِ /فأصيلة قد كبرت… صارت أجمل من كل صبايا الدنيا/ وأصيلة إذ تحيا… نحيا//…حفظت كل حكايات الإنس/ وكل حكايات الجن/وصارت شيئاً منك وشيئاً مني/ وصارت تعرف أن العم تشيكايا من بعض صباها/ تؤمن أن تشيكايا لن ينساها/ ….هل مات تشيكايا؟! / … فأنا أعرف /وأصيلة تعرف… أنك ما متّ/ وستأتي في هذا الصيف، وبألفَي طَيف/ وستأتي في الصيف القادم… لا بد أن تأتي/ وكما كنت كبيراً وكما أنت… كبير… أكبر من كل الموت/ هل مات تشيكايا؟!/ لوّح لي بيديه وقال: سآتي/ فأصيلة بيتي/ وستبقى بيتي/ وأصيلة إذ تحيا… أحيا/وستبقى أكبر من أن تبحث عني في رجل ميت”.
الشاعر العراقي بلند الحيدري.