الفصل 96 وإمكانيات الضياع في تونس

الفصل 96 وإمكانيات الضياع في تونس

لا شيء في القانون التونسي يلخص الوقت الثمين الذي أضاعته البلاد من جراء ملاحقات قضائية لا طائل من ورائها أكثر من الفصل 96 من المجلة الجزائية.

وإلى حين تولي البرلمان التونسي تنقيح هذا الفصل الأسبوع الماضي، كان هذا الفصل سيفاً مصلتاً على رقاب كبار الموظفين مكبلاً عزائمهم ومجمداً مسار اتخاذ القرارات في الإدارات الحكومية، في وقت كانت فيه البلاد تبحث عن حلول لأزمتها الاقتصادية.

يعود إصدار هذا الفصل إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ولكن اللجوء إليه زاد بشكل كبير خلال موجة التتبعات القانونية والإيقافات التي طالت كبار المسؤولين الحكوميين المنتمين لنظام بن علي أثناء السنوات الأولى بعد سقوط ذلك النظام في 2011، عندما تحولت قضايا “الفساد المالي والإداري” إلى تصفية حسابات سياسية بشكل كتم أنفاس المصالحة الوطنية التي كانت تحتاجها تونس خلال فترتها الانتقالية. وبقي هذا النص القانوني، حتى لما تغيرت الأجواء السياسية، يلاحق الموظفين نتيجة التجاذبات الإدارية التي لا تنتهي.

وقد ذكرت منظمة غير حكومية منذ سنتين أن أكثر من 6 آلاف موظف حكومي تعرضوا لملاحقات قضائية و1500 صدرت ضدهم أحكام بمقتضى هذا الفصل.

كانت الصيغة الأصلية للقانون بمثابة الحقل المليء بالألغام. ونصت على تسليط عقوبة بالسجن تصل إلى عشرة أعوام وغرامة مالية على كل موظف حكومي “استغل صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيبت المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما”.

كان من المفروض أن تكون مقاومة الفساد واستغلال النفوذ الهدف الأساسي لهذا النص، لكن الغموض الذي اكتنف صياغته جعله قابلاً للتأويل والتوظيف. أدى ذلك إلى ملاحقة الكثيرين لمجرد أخطاء إدارية وإجرائية اعتبرت “مخالفة للتراتيب” (وهي تشمل القوانين كما التعاميم الوزارية والإدارية) ، حتى إن كانت قراراتهم تنفيذاً لأوامر كتابية من رؤسائهم أو اجتهاداً من أجل المصلحة العامة. ولم يشفع لهم أنهم لم يستخلصوا أية منفعة شخصية من قراراتهم.

وتسبب ذلك لاحقاً في امتناع الكثير من المسؤولين عن الإمضاء على أي وثيقة أو قرار (خاصة إن كان لهما تبعات مالية) خشية الملاحقة القانونية، ما عطل مصالح الإدارة وعرقل إنجاز المشاريع.

تضمنت التقيحات الجديدة تغييرات هامة من بينها التنصيص على تعمد المتهم “استغلال صفته ليلحق ضرراً مادياً بالإدارة مقابل استخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره” ، لا أن تكون قراراته مجرد اجتهاد خاطئ أو سوء تقدير أو تنفيذاً لأوامر في نطاق التراتبية الإدارية المعتادة. لم يعد هناك ما يمكن أن يلام عليه الموظف ما دام قصده ليس الإضرار بالإدارة أو استغلال النفوذ لجلب منفعة لنفسه.

ومن المأمول أن يضع التنقيح حداً نهائياً للتتبعات القضائية غير المبررة ويخفف الضغط على المحاكم التي بقيت ترزح تحت عبء قضايا كثيرة يصعب الحسم فيها نتيجة التباس النص القانوني ما يسمح الآن لها بالتركيز على حالات الفساد الفعلية.

والأهم من ذلك هو أن يحرر النص القانوني الجديد الموظفين الحكوميين من ربقة التوجس من اتخاذ أية قرارات قد تعرضهم للملاحقة وأن يشجعهم ذلك على المبادرة وتحمل مسؤولياتهم عوض الاستمرار —بذريعة “احترام التراتيب”— في ممارسات بيروقراطية تعرقل مصالح المواطنين وتحبط عزائم المستثمرين وأصحاب المشاريع.

والمأمول أيضاً أن تتم مراجعة كامل ترسانة القوانين والتراتيب التي تمنع الإدارات الحكومية من أن تكون حاضنة للكفاءات والمبادرات لا طاردة لها وتمهد السبيل لانطلاقة تحتاجها تونس في المجالات كافة.