هل يساهم بري في حل يُنهي ‘الدولة الشيعية’ في لبنان؟

يعتقد لبنانيون كثيرون ينتمون إلى الإسلام والمسيحية والمذاهب في كل منهما، أن باب خلاصهم من الأزمة الحادة المستمرة منذ 1975، ولو بأوجه مختلفة بعضها سياسي وبعضها عسكري، أن رئيس حركة “أمل” شريكة “حزب الله” في “الثنائي الشيعي” الحاكمة البلاد في شكل أو آخر منذ انتهاء الحروب الطائفية والمذهبية عام 1990، قام بدور أساسي ومهم في تنفيذ اتفاق الطائف لعام 1989، واستعادة وحدة المؤسسات الدستورية والعسكرية والأمنية ثم السياسية. وهم يرونه صاحب دور مميز عن دور شريكه “الحزب” وخصوصاً عندما تحتاج البلاد إلى وسيط بين الأخير وشعبه الشيعي والشعوب اللبنانية الأخرى. وكثيراً ما ساعد ذلك في فكفكة أزمات معينة، وإقفال طرق العودة إلى استعمال السلاح بين اللبنانيين، وخصوصاً الذي يمتلك منه حليفه “الحزب” الكثير الكثير ومعه “جيشٌ لجب” قادرٌ على استخدامه بكفاءة عالية.
لا يزال هؤلاء اللبنانيون مقتنعين بـ”الدور الوطني” الجامع لبري وخصوصاً عندما تصل علاقة حليفه “الحزب” بالشعوب اللبنانية الأخرى إلى حد أقصى من الخلاف والتوتر يخشى معه الكثيرون استخدام السلاح لحلهما.
ومن يملكه هو “حزب الله” شريك “أمل” ورئيسها. لذا ساد اقتناع عام وإن غير مكتمل أن ما يجمع “أمل” بري و”حزب الله” هو الانتماء إلى الشعب الشيعي في البلاد وحرصهما مجتمعين على المحافظة على مصالحه ودوره المميز والواسع ولا سيما داخل لبنان. لكن ذلك، على صحته، لا يحجب حقيقةً شائعة وقد لا تكون حقيقيتها مكتملة، هي أن ما يفرّق الشريكين الشيعيين هذين، قضايا مثل “لبنانية” بري ومؤيدّيه وحرصه على أن تكون علاقتهما الدينية الأوسع من البلاد هي مع مرجعية النجف وسيدها علي السيستاني صاحب الدور المميز في العراق، وحيث له متابعون في دول أخرى. وما يفرّقهما أيضاً هو انتماء “حزب الله” ومؤيدّيه أو شعبه إلى الشيعية الإسلامية الإيرانية ولا سيما بعد سيطرتها على إيران عام 1979 في أعقاب ثورة طاحنة أطاحت نظام الشاه بقوة شعبيتها داخل بلادها، كما بتلاقي مصالح الذين قاموا بها مع المصالح الإستراتيجية البعيدة المدى مع الولايات المتحدة الأميركية.
راية حزب الله (انترنت).
لكن هذا الاختلاف لم يعكّر يوماً العلاقة الإستراتيجية المذهبية والسياسية بين بري و”أمل” من جهة و”حزب الله” ووالدته وأبوه النظام الإسلامي في إيران من جهة أخرى. طبعاً يتذكّر اللبنانيون أن “الشقيقين أمل وحزب الله” اختلفا بقوة في أواخر النصف الثاني من القرن الماضي يوم بدأت سوريا حافظ الأسد “إلقاء القبض” على لبنان والإمساك بأرضه ودولته المنهارة، كما يوم نجحت إيران الِإسلامية في تأسيس “حزب الله” المقاوم لإسرائيل وتجهيزه ليكون ذراعها العسكرية المتقدمة في سوريا وحتى في المنطقة. يتذكرون أيضاً أن اختلافهما تحوّل حرباً عسكرية طاحنة استمرت نحو ثلاث سنوات. علماً أنها كانت حقيقةً حرباً بين إيران الخميني وسوريا حافظ الأسد الذي ما كان يظن أن يوماً سيأتي ويرى إيران الإسلامية تسعى إلى مشاركته نفوذه في لبنان وسيطرته عليه، رغم أنه رئيس الدولة العربية الوحيدة الحليفة لها من أصل 22 دولة. في هذه الحرب وقف بري إلى جانب دمشق ودفع شيعته وشيعة إيران ثمناً بشرياً باهظاً.
لكنّ اتفاقاً بينهما على تقسيم الدور والنفوذ في لبنان أوقف الحرب. إذ نصّ على حصر المقاومة بـ”حزب الله” أي إيران، والعمل السياسي اللبناني بالرئيس بري و”أمل”. عنى ذلك أن الأخير كان ينفّذ سياسة سورية مئة في المئة. ولكن بعد انتقال الأسد الأب إلى جوار ربه تطوّرت قوة “الحزب” وتعاظم دور إيران مع سوريا بشار الأسد، فنجحت في إزالة “المحرّمات” التي كان وضعها والده على “الحزب” ولا سيما داخل لبنان وفي مقاومة إسرائيل. إذ كان يرفض جرّه إلى حرب هو غير جاهز لها كما في “مراقبة” حركة الفلسطينيين في لبنان. نتيجة ذلك بات دور “الحزب” مساوياً للبنان ولا سيما بعدما صار درّة تاج إيران في المنطقة. لكن ذلك لم يُعِد الحرب بينه وبين “أمل”، بل على العكس استمرت شعبية “أمل” رغم تنامي شعبية “الحزب”، وتكامل دورا الفريقين داخل البلاد وفي الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. وأطبقا عملياً على الطائفة الشيعية فاحتكرا تمثيلها، وأطبقا على الدولة انطلاقاً من دور كل منهما حدّده الأسد الأب، وهو الدور والسياسة لبري والمقاومة لـ”الحزب”، يعني ذلك عملياً أن “الحركة” نفّذت سياسة سوريّةً في لبنان لم تأخذ يوماً في الاعتبار استقلاله وتعايش شعوبه، بل أدت إلى إمساك الشعب الشيعي بلبنان الدولتي والمدني والعسكري والسياسي، لكن الفريقين لم يرتكبا الخطيئة المميتة، وهي الاختلاف حتى الاقتتال مرة ثانية.
لمَ إثارة هذا الموضوع اليوم؟ لأن لبنان في محنة بعد حرب قاسية دمّرت فيها إسرائيل بعض جنوبه والضاحية الجنوبية لعاصمته وأجزاء من “البقاعات” الثلاثة. ولأن على دولته الحالية المثلثة الرؤساء إنهاء رواسبها بنزع سلاح “حزب الله” بعد خسارته الحرب أو الجولة الأولى منها، وذلك بتنفيذ القرار المُزمن والمُجدّد 1701، ومعروفٌ مضمونه. وذلك شبه مستحيل بسبب رفض الحزب وعدم استعداد أمل لاتخاذ قرار الانضمام إلى رئيسي الجمهورية والحكومة جوزف عون ونواف سلام في الضغط عليه لتنفيذه، أي لتسليم أسلحته على تنوّعها، و”الحزب” لا يريد ذلك.
لا تستطيع الدولة فرض ذلك عليه بجيشها للأسباب المعروفة، كما لعدم استعداد بري لإكمال الثلاثية الرئاسية والضغط على “الحزب” لجعل السلاح حصرياً في الدولة ولها. الرئيس بري يقول إنه يقوم بدور الوسيط بين “الحزب” والدولة وبينه وبين واشنطن ترامب. لكنه قد لا ينجح في ذلك لأنه لا يستطيع التسبّب بفرض وضع شيعي حكم البلاد بدعم إيران وسيستمر في حكمها من دونه. ولأنه لن يضرب دولةً شيعية قامت داخل الدولة وكان له دور كبير في قيامها. وهو لا يستطيع تحمّل إضعافها أو ضربها ولا سيما بعد الثورة السورية صاحبة الثأر من إيران وابنها “حزب الله”، وحرصها على أخذه في الوقت المناسب.
لكن السؤال الذي يُطرح الآن هو :هل يستطيع بري الابتعاد عن “الحزب” في موقف يؤذي الشيعة بعدما جاء وقت “الانتقام” منهم سورياً ولبنانياً؟ وهل تستطيع إيران حماية منجزاتها اللبنانية بعد عجزها عن حماية منجزاتها السورية وحتى الوطنية؟