نضال حداد: ورثت كلمة طيبة فحوّلتها إلى “كاليمّا”… دار نشر غنية بالمؤلفات القيمة، معظمها باللغة الفرنسية.

كنت أعرف زوجها الطبيب ونقيب الأطباء سابقا شرف أبوشرف، وأسلافها جوزف وبيار ومارون، لكني لم أكن قد تعرفت إليها شخصياً. حدث ذلك ذات ليلة في عشاء عند أصدقاء. كان أحدهم يتحدث، وجاء تعليقي عليه بأنه يستخدم “لغة أبو ملحم”، فجاءني الجواب فوراً من سيدة حسنة المظهر، “وهل لديك مشكلة مع أبو ملحم”؟ قلت “لا، بالكاد أتذكره، وهو صاحب كلمة حلوة، لكنه من زمن مضى”. أجابت: “الكلمة الحلوة لها كل المكان والزمان. أبو ملحم جدّي لأبي”. التقطت أنفاسي قبل أن أرد عليها بأني لم أُسئ إلى جدها والعائلة… وانتهى الحديث بتعارف وصداقة جمعت عائلتينا.
هذه المقدمة كانت ضرورية للتعريف بنضال حداد أبوشرف. تلك السيدة التي ورثت حب الكلمة، وتشاركتها مع زوجها الطبيب الأديب، ولم تكتف بتصيّد الكلمات، بل أتبعته بـ”كلمة” (calima.editions artliban) التي صارت دار نشر مميزة لا تقوم على التجارة بالكلمات، بل تنطلق من حب ودفء وشغف. هكذا ولدت دار نشر غزيرة الإنتاج، فائقة النوعية.
أحد إصدارات دار النشر (النهار).
عندما أخبرتنا بتأسيسها داراً للنشر، (2019) اعتبرت أنها يمكن أن تملّ بعد حين، لأن التأسيس جاء في ذروة أزمة مالية واقتصادية دمّرت لبنان، وجعلت الرغيف والدواء والبنزين أولويات، ولأن عدد القراء يتناقص باستمرار، بأزمة أو من دونها، والكلمة تخسر أصدقاءها ومحبيها، لمصلحة ثرثرة وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار الكاذبة والمضللة التي تستمر في “تتفيه” المجتمعات، ومحو ثقافتها وذاكرتها وحضارتها. لكنها كانت تفاجئني على الدوام بإصدارات جديدة مسيّجة بفرح وشغف.
غلاف كتاب عن مرفأ بيروت (النهار).
مناسبة الكلام في هذا التوقيت، هي مفاجأتي قبل أيام بكتابين جديدين للدار الناشئة، أول لرندة القاضي عماد، وثانٍ لكريستين نجار حايك، وأنا بالكاد فرغت من تصفح كتاب قيّم وجميل عن “كنيسة مار مارون- الجميزة” يرسم معالم منطقة وأزمنة وذكريات بنصوص قصيرة ولكن معبّرة، وصور قديمة تؤرخ لمراحل مهمة من تاريخ الكنيسة وبيروت معاً، إضافة الى تنظيم حلقة عرض لكتاب عن “شكري غانم” قبل أيام.
وقد أعادتني الإصدارات الجديدة، تزامناً مع ذكرى انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، إلى مؤلّف وضعته نضال عن تلك الجريمة بالفرنسية عنوانه “بيروت بقلب مفتوح”، جمعت فيه 65 كاتباً وفناناً أخرجوا أفكارهم إلى العلن، بعيداً من زواريب السياسة وتعقيدات التحقيق.
كتاب صادر عن دار النشر (النهار).
عنه قالت نضال يومها: “لا يطمح كتاب “بيروت بقلب مفتوح” ولا يتظاهر بأنه تأمل منطقي، ناهيك عن الاستجابة للاعتبارات السياسية، لأن الوقت والأولوية للمشاعر. إن إعطاء صوت لمن يصنعون بيروت، وهم جوهرها، من يعيشون فيها، ويختبرونها ويحيونها هو الدافع الأساسي لهذا الكتاب”.
وإذ اعتبرت أن “لكل لبناني قصته الخاصة لحظة الانفجار”، شرحت أنها طلبت “كلماتٍ نابضة بالحياة من الأصدقاء الذين يعيشون في الأحياء الأكثر تضررا، من الأقرباء، والمصابين، ومن فقدوا كل شيء، والمعلمين، والأطباء الموجودين في غرف الطوارئ، وفي الشوارع، وعلى أرصفة بيروت منذ اللحظة الأولى للانفجار… من الكُتّاب، والرسامين الملتزمين، والفنانين، ورجال الدين الذين يصغون دائما لعائلات بيروت المتضررة، والمتطوعين. طلبتُ كلماتٍ نابضة بالحياة من أولئك الذين نجوا من معجزة، ووُلِد الكتاب من كلماتهم، ومن ألوانهم الحقيقية والنابضة بالحياة لإعادة إعمار بيروت إنسانيًا، ولذاكرة لبنان”.
أحد إصدارات دار النشر (النهار).
في ذكرى الانفجار، بل في مناسبة عودة الروح مجدداً إلى بيروت التي انتصرت على الموت والدمار، تحية إلى نضال وأمثالها، على النضال، وعلى إبقاء الكلمة حيّة، لأن “الكلمة كانت في البدء. وصارت جسدا”، وكما تتابع نضال حداد “كلمة لها تاريخ يرنّ في موسيقى الحروف، ويغوص في عمق الحياة”.
رواية عن دار النشر (النهار).