الجنوب واستعادة النشاط | النهار

فاتن كحيل
أشهر مرّت على انتهاء العدوان الّذي خلّف دماراً واسعاً في قرى الجنوب اللّبنانيّ، لا يزال مشهد العودة يحمل في طيّاته الكثير من الأمل ممزوجاً بالتحديات.
فقد عاد الكثيرون من أهالي الجنوب إلى قراهم المدمّرة، حاملين في قلوبهم الإصرار، وفي جيوبهم إمكانيّات متواضعة لإعادة بناء حياتهم، دون انتظار تعويضات طال غيابها.
مبادرات وجهود فرديّة تعيد البناء
في مشهد يجسّد روح التّكافل والتّصميم، يمكن رؤية عشرات العائلات في القرى الحدوديّة، الّتي كانت مسرحاً للاشتباكات، منهمكين في أعمال الترميم، في ظلّ غياب أيّ دعم فعليّ أو خطط حكوميّة واضحة للتّعويض عن الخسائر. كلّ جهد يبذل يعكس رغبة عميقة في استعادة الأمان والاستقرار. يقول أبو علي، أحد سكّان بلدة الخيام، بينما كان يعمل على إصلاح سقف منزله: “لم نعد نملك ترف انتظار المساعدات. هذه أرضنا وبيوتنا، وسنعيد بناءها بأيدينا مهما كلّف الأمر”.
لم يقتصر الأمر على ترميم المنازل، فمع عودة الأهالي، بدأت المحال التجاريّة تفتح أبوابها تدريجيّاً. من متاجر الموادّ الغذائيّة إلى الصيدليّات والملاحم، ومحلاّت الأدوات المنزليّة، تعود الحركة إلى الأسواق، ولو بشكلٍ خجول في البداية. هذا الانتعاش الاقتصادي الذي يعتمد بشكلٍ أساسيّ على مبادرات فرديّة وتمويل ذاتي، يشكّل شريان حياة للمجتمعات المحليّة ويعيد الأمل في مستقبلٍ أفضل.
أمّ الياس، صاحبة محلّ بقالة في مرجعيون، تعبّر عن سعادتها: “كلّ يوم أرى وجوهاً مألوفة تعود، وهذا يشعرني بأنّ الحياة بدأت تدبّ من جديد. نحن نبيع ما نستطيع، والحمد لله الأمور تتحسّن يوماً بعد يوم”. أملنا كبير بالله أنّ الأيّام الآتية أفضل بكثير ولو هذا الشيء كان على حسابنا الخاصّ، صمودنا في أرضنا، وإصرارنا على إعادة الحياة إلى قرانا لا يضاهي بأيّ ثمنٍ.
عودة الأمل عبر افتتاح الشاليهات والمسابح والمطاعم.
هذه الشاليهات والمطاعم على طول نهر الحاصباني استعادت نشاطها بعد فترة طويلة من الإغلاق، عادت الطّاولات لتمتلئ بالروّاد، وعادت الأجواء المفعمة بالحياة الّتي كانت تميّز المنطقة. هذه العودة لم تكن فقط دليلاً على التّعافي الاقتصادي، بل كانت رمزاً على عودة الثّقة والأمان لدى الأهالي والزّوار.
إضافةً إلى الأعراس والاحتفالات والمهرجانات تعود إلى الجنوب حيث إنّها كانت من أكثر المظاهر الّتي تأثّرت بالحرب، فخلال السنتين غابت أجواء الفرح والبهجة. وأُقيمت الأعراس بشكلٍ محدود وبعيداً عن الأضواء، اليوم بدأت الحجوزات تتوالى، وعادت فرق الزفّة لتعزف أنغامها المبهجة في شوارع القرى والبلدات. إنّ عودة الأعراس مؤشّر قويّ على أنّ الحياة تستعيد مسارها الطبيعيّ، وأنّ النّاس يتطلّعون إلى المستقبل بتفاؤلٍ أكبر بعد سنتين من القلق.
إحياء المهرجانات الثّقافيّة والفنيّة
لطالما كانت حاصبيا ومرجعيون تحتضنان العديد من المهرجانات الثّقافيّة والفنيّة الّتي تجذب الزّوار من مختلف أنحاء المنطقة. هذه المهرجانات توقفّت تماماً خلال فترة الحرب، منها مهرجان “مار الياس” الّذي هو جزء لا يتجزأ من التّراث الديني والثّقافي لمرجعيون. يُقام هذا المهرجان في شهر تموز/يوليو بالتزامن مع عيد مار الياس. يشمل الاحتفال عادةً قدّاساً إلهيّاً خاصّاً في كنيسة مار الياس في البلدة، يحضره أبناء الرّعيّة والزّوار من القرى المجاورة والمغتربين. والملفت أنّ عدداً كبيراً من المسلمين يشاركون المسيحييّن بهذا العيد وسائر الأعياد، فبذلك تكون الأعياد مشتركة بين المسيحييّن والمسلمين وهذه ظاهرة إنسانيّة وطنيّة بارزة تمهّد لعودة اللّحمة بين أبناء الوطن أجمعين.
يتميّز القدّاس بالأجواء الرّوحانيّة والتّراتيل الدينيّة، تُقام عادة فعاليّات اجتماعيّة وترفيهيّة متنوّعة حول الكنيسة مثل سوق صغير يضمّ منتجات محليّة وحرفاً يدويّة، وألعاباً للأطفال، وتمارين رياضية، ومأكولات تقليديّة. تُعد هذه الأنشطة فرصة لتعزيز الاقتصاد المحلّي الصّغير، وإحياء وتقوية التّقاليد وفرصة للشّباب للتعرّف على تاريخ قريتهم وعاداتها ولتعزيز الانتماء المجتمعي.
وفي الختام، إنّ عودة أبناء الجنوب إلى قراهم ليست مجرّد انتقال جغرافي، بل هي فصل جديد من قصّة التشبث بالأرض والهويّة. فتعكس عودة الأهالي إلى قرى الجنوب بعد فترة النّزوح والاضطرابات مرحلة مفصليّة في المسار الثّقافي وإعادة بناء الحياة اليوميّة. فعلى الرّغم من غياب التّعويضات الرسميّة، شكّلت مبادرات السّكان الذّاتيّة لإعادة افتتاح محالهم وترميم منازلهم خطوة أساسيّة نحو استعادة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. كما ساهمت عودة المناسبات والمهرجانات في تعزيز الرّوح الجماعيّة وإعادة بثّ الحياة في النّسيج الثقافي والاجتماعي للمنطقة.
كلّ ما يشهده الجنوب اليوم هو تأكيد على الإرادة الصّلبة لمواجهة التحديات وبناء مستقبل أكثر ثباتاً واستقراراً.