طرابلس بين هويتين: عندما تتحول المدينة إلى مجرد إحصائية في سياق الدولة اللبنانية

طرابلس بين هويتين: عندما تتحول المدينة إلى مجرد إحصائية في سياق الدولة اللبنانية

أ. د. هلا رشيد أمون

في ظلِّ الحديث المتكرِّر عن انتماء “مدينة طرابلس” لبلاد الشام، وما يُثار أحيانًا من تسريباتٍ دبلوماسيةٍ وإعلاميةٍ عن وجودِ سيناريوهات لإلحاقها بسوريا، أو “عودتها” إلى حضن “الوطن الأم”، وذلك من ضمن تنفيذ مشروعِ “الشرق الأوسط الجديد”، لا بدّ من التأكيد على حقيقةٍ راسخةٍ في الجغرافيا والتاريخ: طرابلس شاميَّة بقدر ما أنَّ بيروت شاميَّة، وفلسطين شاميَّة، والأردن شاميّ، وشمال العراق متداخل شامياً، وأنطاكيا شاميَّة، و “سوريا” نفسها، بحدودها المعاصرة، شاميَّة، باعتبار أنها ليست سوى جزءٍ من بلاد الشام الكبرى، التي انقسمت إدارياً عبر العصور، واستقلّ كلُّ جزءٍ منها، وفق تحوّلات السياسة والجغرافيا.

ولكن ما هي بلاد الشام ؟

“بلادُ الشام” هي منطقةٌ تاريخية وجغرافية تقعُ في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتضمّ اليوم أربع دولٍ رئيسية: سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين. وفي بعض السياقات التاريخية والثقافية، كانت تُضاف إليها أجزاءٌ من جنوب تركيا (مثل أنطاكيا ولواء إسكندرون)، وبعض مناطق شمال العراق (مثل كركوك والموصل وسنجار) التي شكّلت مناطقَ تماسٍ وحدوداً حضارية، لا امتداداً مباشراً لأراضي الشام نفسها، 

طرابلس عبر التاريخ: بين الجغرافيا الشاميَّة والتقلبات السياسية …

1- العهدُ الفينيقي/ الإغريقي/ الروماني: كانت “طرابلس” مدينةً فينيقيةً كبرى، واسمها التاريخي “Tripolis” يعني “المدن الثلاث” (طرابلس، صيدا، وأرواد). خضعت لحُكم الإغريق (الإسكندر المقدوني)، ثم للرومان الذين أدرجوا المدينة ضمن مقاطعة “Syria Phoenice”، إحدى مقاطعات الإمبراطورية الرومانية في شرق المتوسط، التي كانت تشمل مناطق من الساحل الشامي. 
2 – العصورُ الإسلامية: من الفتح حتى العصر العباسي: بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، عُرفت “بلاد الشام” باسم “إقليم الشام” في مقابل “إقليم العراق”. وقد فُصلت “الشام” إدارياً عن “العراق” في العصر العباسي بشكلٍ واضح، بحيث أصبح العراق مركز الدولة، فيما تراجعت مكانةُ الشام.
وقد تمّ تقسيمُ “بلاد الشام” إلى خمسة أجناد ضمن نظام إداري/ عسكري متقدّم اعتمدته الخلافةُ الراشدة، ثم الأمويون والعباسيون: جُند دمشق، جُند حمص، جُند قنسرين، جُند فلسطين، جُند الأردن. وكانت “طرابلس” تابعةً إدارياً لجُند حمص الذي شمل مناطق الساحل السوري واللبناني الشمالي، وصولاً إلى سهل عكار، بينما كان “جبل لبنان” خاضعاً لجُند دمشق، ولكن بسيطرةٍ محدودة. وقد استمرّ هذا النظام، إلى أن ضعُفت الدولةُ العباسية في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ثم انهارت بالكامل في ظلِّ تحوّلاتٍ كبرى مع مجيء الطولونيين والإخشيديين، ثم الفاطميين والسلاجقة، الذين تبنّوا أنظمةً إداريةً جديدة.
3 – الإمارةُ الطرابلسيَّة في العهد الفاطمي والمرحلتين الصليبية والمملوكية: في عهد الدولة الفاطمية، كانت طرابلس تحت حكم “بني عمَّار” الذين أنشأوا فيها إمارةً شبه مستقلة، قبل أن تقع في قبضة الصليبيين في العام 1109، فتُصبح “كونتية طرابلس” (County of Tripoli)، وهي واحدةٌ من الإمارات الصليبية التي نشأت على أراضي الشام. وقد امتدت “إمارةُ طرابلس”  من شمال لبنان الحالي، إلى الساحل السوري، وكانت ثاني أكبر دولة صليبية في المنطقة بعد “مملكة القدس”. وبعد تحريرها على يد المماليك (1289 – 1516) صارت طرابلس “نيابةً مملوكية” مُهمةً، تُعرف بـ”نيابة طرابلس”، وتضمُّ شمال لبنان، وبعض مناطق الساحل السوري. وكانت مركزاً إدارياً وتجارياً بارزاً في الساحل الشامي. وهي تُصنَّف اليوم على أنها ثاني مدينة مملوكية بعد القاهرة.
5 – الحكمُ العثماني: في مرحلته الأولى (1579 – 1864) أُعلنت طرابلس عاصمةً لـ “إيالة طرابلس الشام”، وهي ولايةٌ عثمانيةٌ كبرى قائمة بذاتها، امتدّت من اللاذقية شمالاً، إلى شمال بيروت جنوباً، وشملت أحياناً مدناً داخلية مثل حمص وحماة، ويحكمها والٍ يُعيَّنه السلطان العثماني في استنبول.
وفي المرحلة الثانية من العهد العثماني (1864 – 1918)، ومع تطبيق التنظيمات العثمانية وقانون الولايات، أُلغيت الإيالات، وأصبحت طرابلس “سنجقاً” ضمن ولاية بيروت. وبقيَ في طرابلس متصرِّف أو قائمقام يدير شؤونها المحلية، حتى نهاية الحكم العثماني.
6 – الانتدابُ الفرنسي وقيامُ لبنان الكبير (1920–1943): في العام 1920، أُعلن عن قيام “دولة لبنان الكبير” تحت سلطة الانتداب الفرنسي، وتمَّ ضمُّ طرابلس إليها. وهذا الضمُّ لم يكن خياراً جغرافياً صِرفاً، بل كان قراراً سياسياً فرنسيَّاً يخدم أهدافاً اقتصادية، استراتيجية، وديموغرافية. فرنسا كانت تريد إنشاء دولةٍ ذاتِ أغلبيةٍ مسيحية تكون حليفةً لها، ولكنها اعتبرت أنَّ وجود طوائف أخرى في الكيان الجديد، سوف يحول دون وصفه بأنه “دولة مارونية فرنسية مفروضة”. وبما أنَّ “جبل لبنان” كان صغيراً من حيث المساحة والسكان، فقد ضمَّت مناطق ذات أكثريةٍ مسلمة (كالبقاع، عكار، وطرابلس) لزيادةِ الكتلة السكانية، ولإحداثِ توازنٍ ديموغرافي يعزز استقرار الكيان السياسي الجديد، تحت وصايتها. ولكنَّ هذا الكيان الهجين كان يحمل تناقضاته البنيوية منذ اللحظة الأولى.

 

دوّار المدينة (إنترنت)

 

طرابلس ذات الأغلبية السُنيَّة، كانت ضرورةً اقتصاديةً وجغرافيةً وديموغرافيةً لتقوية الكيان اللبناني الجديد، وجعلهِ قابلاً للحياة؛ وكذلك كانت حلقةَ وصلٍ طبيعية بين الساحل اللبناني والداخل السوري.موقعها جعلها مركزاً مهمَّاً لحركة التجارة والبضائع، خاصةً مع مُدنٍ مثل حمص وحلب ودمشق. وقد امتلكت ميناءً بحرياً نشطاً ثانياً بعد بيروت، وكانت مركزاً صناعياً  وتجارياً هاماً، خصوصاً في مجالات النسيج والصابون والخشب. 
بعد عملية الضمّ، تغيّرت معالم علاقة طرابلس مع الداخل الشامي، وبدأت المدينةُ مرحلةٌ سياسيةً جديدة، اتسمت بتحولاتٍ في الهُويَّة والدور والحضور . ورغم رفضها الضِمني لهذا الضمّ، إلا انها أصبحت جزءاً من هذا الكيان الجديد، ولا تزال تعاني من هذا التوتُّر الهُويَّاتي والسياسي، حتى يومنا هذا.
7 – الجمهوريةُ اللبنانية (1943–حتى اليوم): أصبحت طرابلس، بموجب النظام الإداري اللبناني، مركزَ محافظة الشمال، وتُدار من قِبل محافظ ومجلسٍ بلدي. ولكنَّ الحقبة الحديثة ظلمتها وأهملتها وأضعفت موقعها ودورها، ولم تُنصفها بما يتناسب مع دورها التاريخي.  ذلك أنَّ طرابلس عندما ضُمّت إلى “دولة لبنان الكبير”، كانت أكثر من مجرد مدينةٍ حدوديةٍ أُلحِقت بجغرافيا جديدة، وأكثر من مجرد كيانٍ إداري تغيّر اسمُه وحدودُه عبر العصور. 
وهكذا كسب لبنانُ الوليد مدينةً ذات عُمقٍ حضاري وتجاري وموقع ساحلي استراتيجي، لكن في المقابل، دفعت طرابلس كلفةً باهظةً لهذا الانضمام إلى كيانٍ سياسيٍّ لم تكن جزءاً من نواته التأسيسية، لأنها – بكل عراقتها وتنوّعها وانفتاحها – وُضعت على الهامش السياسي والتنموي، وتركَّزت السلطةُ والاهتمام التنموي في بيروت ومحيطها.
صحيح أنها حملت لاحقاً لقب “العاصمة الثانية” للجمهورية. غير أنَّ هذا اللقب لم ينعكس بالضرورة في السياسات التنموية أو الاقتصادية، لأنَّ المدينة عانت – ولا تزال – من واقع التهميش والحرمان والإقصاء والتراجع الاقتصادي والاهتزازات الأمنية. واقعٌ يحاصرها منذ عقود، حوّل جزءاً من إرثها الكبير، إلى خزَّانٍ للوجع والشعور بالاحباط والخذلان . ولا يوجد مثالٌ أبلغ على هذا التهميش، من التعيينات القضائية والدبلوماسية التي حصلت مؤخراً، وتجاهلت أبناء المدينة بشكل ٍوقحٍ وفاقع.

نعم طرابلس شاميَّة .. ولكن!

يظهر لنا من هذا الموجز التاريخي والجغرافي، أنَّ طرابلس – سواءً كانت “إمارة” أو “كونتيه” أو “نيابة” أو “إيالة” أو “سنجقاً” – لم تكن في تاريخها، مجرّد تابعٍ في الهامش الشامي، بل كانت مجالاً جغرافياً وحيوياً يتجاوز ما يُراد حصرها به اليوم، ويؤكد موقعها كحاضرة الساحل الشمالي، وتأثيرها الثقافي والاقتصادي المتجاوز للحدود. ولذلك، فإنّ الحديث عن طرابلس وكأنها كانت “ملحقةً” بسوريا التاريخية، أو مجرد ظلٍّ لدمشق، يُخالف الحقائق التاريخية؛ لأنّها في لحظاتٍ تاريخيةٍ مفصلية، كانت تضمُّ أراضٍ من سوريا الحالية. أمَّا حملُها لإسم “طرابلس الشام”، فهو مجرد تطوّر لغوي وجغرافي نتج عن الحاجة إلى التمييز بين طرابلس الموجودة في المغرب العربي (دولة ليبيا) وطرابلس الموجودة في المشرق العربي.

وخلاصةُ القول: نعم، طرابلس شاميّة الهُويّة، بعمقها التاريخي وصِلاتها المجتمعية، وقد انخرطت بنِديَّةٍ في تشكيل المشهد الشامي، كقطبٍ أصيل من أقطابه، لا كتابعٍ او ملحق. لكنها ليست “سوريَّةً” بالمعنى الجيوسياسي الحديث. ولهذا من المُهم التمييز بين الهُويَّة الشاميَّة لطرابلس، وهي هُويَّة حضارية/ ثقافية/ تاريخية جامعة، تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ومفهوم “الهُويَّة السُوريَّة” الحديث (كمشروع سياسي/قومي) الذي يُشير إلى الدولة السورية القائمة بحدودها المعترف بها دولياً منذ العام 1946. 
فحين نقول إنَّ طرابلس “شاميَّة”، فإننا لا نعني انتماءها السياسي المعاصر إلى دولةٍ بعينها، بل نُقرُّ بانغراسها في أرض بلاد الشام التي جمعتها وحدةٌ حضاريةٌ وجغرافيةٌ لقرونٍ طويلة، ثم فُرضت عليها حدودٌ مصطنعة في سياقاتٍ استعمارية/ تقسيمية. 
نعم، طرابلس “شاميَّة” الهوى، لكنها أيضاً “لبنانيَّة” الهُويَّة. وهذا هو الفهمُ الأصيل الذي ينبغي استعادته، بعيداً عن صراعات القوى العظمى، والاستغلال السياسي، والتوظيف الديني، والانزلاق إلى السجالات الشعبوية حول “العودة” أو “الانفصال”. أمَّا التعامل مع هذه الهُويَّة المركَّبة، فلا يكون بالدعوة إلى إلحاقها بسوريا – لأنَّ هُويَّتها اللبنانية ناجزةٌ ونهائيةٌ وليست محلاً للنقاش – بل بإعادة الاعتبار لمدينةٍ ظلمها التجاهلُ وذهنية التعاملُ معها من جانب النظام القائم، وكأنها طرفٌ معزول على هامش الوطن، أو كأنها “كمالة عدد” أُلحقِت بالكيان اللبناني، فقط لسدّ نقصٍ جغرافي واقتصادي وديموغرافي.