مستقبل الرعاية الصحية في زمن الذكاء الاصطناعي… لبنان يبدأ خطواته الأولى

في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يُحدث تغييرات جذرية في مختلف المجالات، لا سيما في قطاع الصحة، كان من الطبيعي أن يشكل هذا الموضوع أحد المحاور الرئيسية للمؤتمر السنوي الثاني للجمعية الطبية اللبنانية الدولية ILMA، الذي عُقد في بيروت بالتعاون مع وزارة الصحة العامة، ونقابتي الأطباء في بيروت وطرابلس، والمنظمة الدولية للهجرة (IOM-UN Migration). وشارك فيه أكثر من 500 اختصاصي في الصحة من لبنان وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا والسويد وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة وأوستراليا وزامبيا وغانا والمكسيك والبرازيل والمملكة العربية السعودية.
ناقش المشاركون مواضيع دقيقة ومتخصصة من بينها: “الرعاية الصحية عن بُعد في لبنان: التجارب والتحديات وآفاق التطوير”، و”إعادة تصور الطب: الذكاء الاصطناعي في صلب الرعاية والنظم الصحية والتعليم الطبي”، و”الأبعاد الأخلاقية للذكاء الاصطناعي: كيفية التعامل مع واقع جديد ومعقد”.
“الذكاء الاصطناعي بدأ يغيّر طريقة ممارسة الطب من خلال تحسين التشخيصات، وتسهيل الإجراءات الإدارية، وتوفير خطط علاجية أكثر ملاءمة لحالة كل مريض”، كما قال الدكتور فيكتور يزبك، عضو اللجنة العلمية للمؤتمر. وأضاف: ” الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء في تحليل بيانات معقدة – من الصور الطبية إلى الجينوم – بسرعة ودقة. كما يساهم في الكشف المبكر عن الأمراض وفي توزيع أفضل للموارد، ما يُحسن نوعية الرعاية الصحية وفعاليتها “.
الذكاء الاصطناعي بات يستخدم في مجالات طبية، أبرزها: التصوير الطبي والتشخيص مثل الأشعة وعلم الأمراض، الجراحة بمساعدة الروبوت، وإدارة صحة السكان. إنه يخوّل أيضاً التنبؤ بتطور الأمراض، تقليل نسب إعادة دخول المستشفيات، وتوفير الدعم للمرضى عبر مساعدين افتراضيين.
لبنان لا يغيب عن هذه التطورات. بيد أن المبادرات لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أن بعض المستشفيات الخاصة بدأت في إدخال الذكاء الاصطناعي في خدماتها. وعن ذلك يشرح يزبك: “يمكن للبنان الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين فعالية النظام الصحي، وخفض التكاليف، ومعالجة النقص في الكوادر الطبية”. ويتابع: “اعتماد سياسات مناسبة وتطوير شركات فعالة يسمح بتعزيز خدمات الطب ووسائل التشخيص عن بعد، وتحسين توزيع الموارد، بخاصة في المناطق المهمشة والنائية”.
في هذا الإطار، تلعب ILMA دوراً محورياً من خلال “تعزيز تبادل الخبرات، وتسهيل التعاون الإقليمي من خلال تنظيم لقاءات علمية وتدريبية والسهر على تطبيق أخلاقي ومسؤول لهذه التكنولوجيا”. وتهدف هذه المبادرات، بحسب يزبك، إلى “خلق حوار فعّال بين العاملين في القطاع الصحي، وتبادل الخبرات الناجحة، وضمان دمج الذكاء الاصطناعي في النظام الصحي اللبناني بطريقة مسؤولة ومستدامة”.
التحديات الأخلاقية
إلا أن هذا التقدم التكنولوجي يطرح عدة أسئلة أخلاقية: “كيف نضمن حماية خصوصيات المريض؟ من يتحمل مسؤولية القرار عندما يكون الذكاء الاصطناعي جزءاً من العملية؟ ما مصير العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض؟”.
يجيب الدكتور فرانسوا أبي فاضل، عضو اللجنة العلمية للمؤتمر، بأنه “مع دخول عصر الذكاء الاصطناعي، يتجه الطب نحو التركيز على الدقة، والوقاية، وتقديم رعاية صحية مخصصة بشكل أفضل”. ويضيف بأن هذا سيتيح “إجراء تشخيصات مبكرة وأكثر دقة، وتدخلات طبية أكثر استهدافاً، وتحسين التواصل مع المرضى عبر الأدوات الرقمية، بالإضافة إلى توفير رعاية أكثر عدالة شرط أن يتم تطبيق الذكاء الاصطناعي بمسؤولية”.
ويشدد على أن “ضمان استمرارية هذا النموذج الطبي الجديد وعدالته يتطلب تعاوناً وثيقاً بين الأطباء والتقنيين وصانعي السياسات والاختصاصيين في علم الأخلاقيات وذلك ليتسنى للجميع الاستفادة من هذه التكنولوجيا وليس فقط من يستطيع تحمّل تكلفتها”.
روابط، شراكات، والتزام
وفي افتتاح المؤتمر، شدد رئيس ILMA الدكتور وليد أحمر، على أهمية هذا اللقاء الذي “يتجاوز كونه فعالية مهنية فحسب – فهو احتفال بالتواصل، والتعاون، والالتزام. إنه يجمع بين العاملين في مجال الرعاية الصحية اللبنانيين من كل أنحاء العالم، والذين يتشاركون الشغف بالطب والتعليم وخدمة مجتمعاتنا المحلية ووطننا الأم”.
وأضاف: “يأتي مؤتمر هذا العام في وقت يجمع بين التحديات والفرص. فأنظمة الرعاية الصحية حول العالم تواجه ضغوطاً متزايدة، في حين أن التقنيات الحديثة والتعاونات العابرة للحدود تعيد تشكيل طريقة ممارستنا للطب. وفي هذا السياق، تبرز الجمعية الطبية اللبنانية الدولية كقوة موحدة – تتجاوز الحدود، وتعزز تبادل المعرفة، والتضامن، والابتكار”.
اما وزير الصحة العامة الدكتور ركان ناصر الدين فأكد أن “نجاحات الجالية الطبية اللبنانية في الخارج ترفع اسم لبنان عالياً، من الابتكارات الجراحية إلى ريادة الذكاء الاصطناعي في الطب”. وأضاف: “لكن المطلوب اليوم هو الانتقال من مبادرات فردية إلى شراكات منسّقة ومستدامة، مبنية على الحاجات الوطنية ومرتبطة مباشرةً بالاستراتيجية الصحية في لبنان”.
واعتبر أن “من أبرز فرص هذا التعاون هو التحوّل الرقمي، الذي يمكنه ربط مقدمي الرعاية، تمكين المرضى، واستعادة الثقة بالنظام الصحي”. وأضاف: “يسعدني أن أعلن عن قرب إطلاق استراتيجية لبنان للصحة الرقمية، وخريطة طريق لدمج الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في كل مستويات الرعاية الصحية”. وختم قائلاً: “رغم الأزمات، لبنان لا يزال ينبض بفضل طاقاته في الداخل والاغتراب. نطمح ليوم يعود فيه اللبنانيون ليقودوا مؤسساتهم بأنفسهم، لا كدعم خارجي، بل كشركاء في رسم مستقبل الوطن”.
وتجدر الإشارة إلى أن نقابة الممرضات والممرضين في لبنان شاركت بشكل لافت في هذا المؤتمر، وكانت النقيبة عبير الكردي علامة عضواً في اللجنة التنظيمية، وشاركت كميسّرة جلسة ومشارِكة في لجنة نقاش ضمن البرنامج العلمي. وتمثّلت النقابة أيضًا في مختلف الجلسات العلمية والنقاشية من خلال حضور ممثلين عنها قدّموا رؤى وتجارب قيّمة أبرزت أهمية الدور المحوري الذي تؤديه الممرضات والممرضون في هذا المجال الحيوي.