أمة تحت اسم فوت… واحلم بأن وطننا أصبح دولة

رنا فرح
“قوم فوت نام، وصيرحلام إنو بلدنا صارت بلد…”
قالها زياد الرحباني قبل أكثر من أربعة عقود، كأنّه يكتب للمستقبل لا للحاضر. أغنية ساخرة، كئيبة، لكنها تنطوي على تشريح طبقي-سياسي بليغ، اختصره بجملة لا تزال تصيب الجوهر:
“هاي قرطة عالم مجموعين لاْ… مطروحين لاْ… مقسومين.”
ما قاله زياد يعكس أزمة عميقة لا تزال قائمة في لبنان حتى اليوم: لا مشروع وطنياً، لا وحدة حقيقية، ولا حتى انقساماً منتجاً، بل حالة من الضياع الهوياتي، تُشبه حال المعارضة التغييرية التي برزت بعد 2011 وازدادت وضوحاً بعد انتفاضة 17 تشرين.
معارضة ما بعد 2011: مشروع هوية لم يكتمل
منذ عام 2011، مروراً بتجربة 17 تشرين، وصولاً إلى دخول نواب تغييريين إلى البرلمان في 2022، ظهر تيارٌ سياسي جديد يحاول أن يطرح نفسه بديلاً من الطائفية السياسية في لبنان. غير أن هذا التيار، رغم اندفاعه نحو “اللاطائفية”، لم يُنتج بعد هوية سياسية بديلة واضحة المعالم.
وهنا تبرز الإشكالية الأساسية: هل يكفي رفض النظام الطائفي لبلورة بديل؟ أم أن تجاوز الطائفية يتطلّب هوية جماعية متماسكة، قائمة على وعي سياسي واجتماعي عميق، وليس فقط على الغضب الآني؟
بين الهويات المتجذّرة والهويات الناشئة: قراءة مع تشارلز تيلي
في هذا السياق، تقدّم نظرية تشارلز تيلي حول بناء الهويات مدخلاً لفهم المأزق الحالي. تشارلز تيلي (1929-2008) كان عالم اجتماع ومؤرخاً أميركياً بارزاً، متخصصاً في دراسة الحركات الاجتماعية وبناء الهويات السياسية وتطور الدول. في
مقاله Political
Identities in Changing Polities ،
يوضح كيف تتأثر عملية صناعة الهوية بـ”الإنتاج الصغير للأعذار والتفسيرات والاعتذارات” لفهم القضايا الكبرى وتأثيرها على الحياة اليومية.
وفق تيلي، هناك نوعان من الهويات السياسية:
1.
الهويات المتجذّرة ( (Embeddedوهي تلك المرتبطة بالطائفة، الدين، المنطقة أو العِرق، وتتمتّع باعتراف اجتماعي واسع وقدرة عالية على التعبئة.
2.
الهويات الناشئة (Disjointed): وهي التي تنشأ من خلال تعبئة جماعية حول مصالح عامة مثل العدالة والحقوق المدنية، لكنها لا تملك القوة الرمزية أو البُعد التاريخي الذي يجعلها مرئية وقادرة على المنافسة.
وهنا يكمن التحدّي: رغم أن الهوية التغييرية تدعو إلى محاربة الفساد، العدالة الاجتماعية، وبناء دولة القانون، إلا أن هذه المطالب تفتقر حتى الآن إلى سردية جامعة وتنظيم تعبوي فعّال يجعل منها بديلاً حقيقياً من الهويات الطائفية.
:2025 حين يعيد النظام إنتاج نفسه
بعد ثلاث سنوات من انتخابات 2022، تتضح المعضلة أكثر:
•
النظام الطائفي لا يزال حياً يُرزَق، يعيد إنتاج نفسه عبر الخدمات والخطاب المذهبي والتحالفات التقليدية.
•
المعارضة، من جهتها، تعاني من انقسامات داخلية، وتراجعاً في الزخم الشعبي، وغياب التنظيم البنيوي.
بل الأسوأ، أن العديد من المواطنين بدأوا بالعودة إلى “ملاجئهم الطائفية” خوفاً من الانهيار، ما يُضعف من قدرة الهوية الناشئة على الاستمرار.
مشروع برّي والدائرة الواحدة: وحدة وطنية شكلية؟
في هذا الإطار، يطرح رئيس مجلس النواب نبيه برّي مشروع قانون جديداً يقضي بجعل لبنان دائرة انتخابية واحدة، مقروناً بإنشاء مجلس شيوخ. وفيما يبدو الطرح ديموقراطياً من حيث الشكل، تطرح المعارضة وبعض القوى تحفظات مشروعة:
هل التخلي عن التقسيمات الطائفية في ظل بقاء النظام الطائفي دستوراً وممارسةً، يضمن العدالة؟ وهل الرئيس برّي مستعد فعلاً للتنازل عن مكتسبات سياسية راكمها طوال عقود عبر هذا النظام؟
في غياب إصلاح دستوري متكامل، يبدو أن مشروع الدائرة الواحدة يخفي داخله فخاً ديموغرافياً/سياسياً قد يُكرّس غلبة فريق على حساب آخر تحت غطاء “الوطنية”.
من زياد إلى التغييريين: الهوية وحدها لا تكفي
في مقال
“The Leftist, the Liberal, and the Space in Between: Ziad Rahbani and Everyday Ideology”
للباحث سوني هوغبول (Sune Haugbolle) ، تُقدّم شخصية زياد الرحباني نموذجاً لفنان يُمارس الأيديولوجيا اليومية، ليس يسارياً تقليدياً ولا ليبرالياً فردانياً، بل ابن طبقة مسحوقة يعكس تمزّقها اليومي بين الحلم والانكسار.
وهنا، تشبه المعارضة التغييرية في خطابها تجربة زياد:
•
ترفض الواقع، لكنها لا تملك مشروعاً بديلاً متماسكا.ً
•
تعبّر عن غضب شعبي حقيقي، لكن من دون عمق تعبوي يجعل من هذا الغضب حركة مستدامة.
•
تُطلق مواقف أخلاقية، من دون قدرة تنظيمية تُحوّلها إلى قوة تغيير.
________________________________________
“قوم فوت نام”… أو قوم إبنِ مشروعاً
زياد قالها بوضوح:
“قوم احلام إنو البلد صار بلد…”
لكننا في 2025، ما زلنا نعيش بين الحلم والتكرار.
إن تفكيك النظام الطائفي لا يمرّ عبر الرفض الخطابي وحده، بل عبر بناء هوية سياسية جديدة تُقنع الناس، تنظّمهم، وتُقابل الرمزية الطائفية بسردية وطنية عميقة.
وإلا، فسنظل، كما قال زياد،
“قرطة عالم مجموعين لا مطروحين لا مقسومين…”
وهذا، في ذاته، لا يبني بلداً.