آراء حول “سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الشاملة” (9)

إبراهيم سمو – المانيا
يُمثّل شعر سعيد تحسين تجربةً فريدة في التماهي العميق بين الوجدان العاطفي واللغة الحسية المجسَّدة؛ إذ لا يظهر النص الشعري لديه كخطاب دلالي مجرد، بل كـ”كائن حي” ينبض بتوترات داخلية، حيث تتقاطع الروح بـ”جسد اللغة”. في هذا الفضاء، تتحوّل القصيدة إلى مجال حيويّ يتداخل فيه الانفعال بالتعبير، وتنصهر فيه “التجربة الذاتية بـ”البنية اللغوية”، فلا تكون اللغة مجرد أداة، بل كيان يُولد من التوتر، ويكشف عن الذات في لحظة حضورها الأعمق.
هذه “الحيوية” التي تسكن النصوص لا تقتصر على مضمونها الشعوري فحسب، بل تمتد إلى طريقتها الخاصة في إنتاج اللغة، إذ تنفتح الكلمات على طبقات من الإحساس والتأويل تتجاوز السطح الظاهر لتلامس نوعاً من المكاشفة الوجودية.
ولا يمكن فهم هذه التجربة الشعرية إلا من خلال تتبّع “شعرية اللغة” في آثار هذا الشاعر، واستكشاف “الطاقات البلاغية” و”الأسلوبية” الكامنة في بنيتها العميقة؛ ذلك أن نصوصه تقوم على بنية لغوية لا تكتفي بإنتاج المعنى، بل تشارك في تكوينه وتوليده انطلاقاً من “التوترات الشعورية” الكامنة في قلب التجربة.
ومن ههنا، تنبع أهمية “المقاربة التأويلية” التي تُعنى بتحليل المستويات النحوية والصرفية والبلاغية والإيقاعية، لا بوصفها مظاهر خارجية فحسب، بل كـ”وسائط داخلية” فاعلة في تشكيل المعنى الشعري، وانبثاقه من تلاقي اللغة مع “التجربة الوجدانية”.
وانطلاقاً من هذا المنظور، يسعى هذا الجهد المتواضع إلى الكشف عن آليات تشكّل الشعرية في “الأعمال” لدى سعيد تحسين، من خلال رصد “التفاعل الجدلي” بين “الأدوات اللغوية” والانفعالات التي تحرّكها، ومتابعة كيف تتحول اللغة إلى “وسيط درامي” يعيد تنظيم التجربة في شكل جمالي يتجاوز حدود اللحظة الآنية، وينفتح على أفق رمزي وتأويلي يعيد “موضعة الشعر” كـ”فعل وجودي” يتخطّى مجرد التعبير عن الانفعال إلى التأويل، والتكثيف، وإنتاج الأثر.
في شعرية اللغة… منظور تركيبي ودلالي:
ـ التوتر النحوي وحيوية الانفعال:
يتّسم “البناء النحوي” في “الأعمال” بميل واضح إلى الجمل الفعلية القصيرة، التي تعتمد غالباً على الفعل المضارع كـ”نواة دلالية مولِّدة”. ولا يُعد هذا الانحياز مجرد خيار أسلوبي، بل يعكس رؤية جمالية تنجذب إلى “اللحظة الحيّة”، المتجددة، المنفتحة على احتمالات الحضور.
فمن المعلوم ان الفعل المضارع، يُبقي بزمنه المستمر، التجربة الشعورية في حالة توتّر دائم، ويمنح النصوص طاقة حركية تعكس نبض الانفعال الآني.
غير أن هذا “الانتعاش النحوي”، على صدقه اللحظي، لا يخلو من مكابدة؛ إذ يلاحظ بوضوح كيف يؤدي “الاقتصاد التركيبي” إلى نوع من الرتابة بخاصة حين تغيب التبدلات الأسلوبية والتنويعات الزمنية.
فغياب “التلوين النحوي” وتكرار البناء ذاته ـ من دون تفكيك أو إعادة توزيع يُربك الإيقاع الداخلي للنص ويقلّل من قدرته على توليد توترات درامية أكثر تنوعاً.
يضاف إلى ذلك أن التمسّك بـ”ضيق الأفق التركيبي”، خصوصاً في ظل غياب التنقّل بين “الضمائر” أو تغيّر وجهات النظر، يفضي الى انغلاق النص داخل حالة وجدانية فردية، فيظل المتكلم أسيراً لصوته الداخلي دون انفتاح على تعددية صوتية أو حوارية، ما يضعف “البعد الدرامي” للنص ويفقده إمكانيات “التمدد التعبيري”.
ـ الاشتقاق الصرفي وتكثيف الشعور:
يمتلك الشاعر قدرة لافتة على توظيف “البنية الصرفية” لمنح مفرداته عمقاً شعورياً مؤثراً. ويتجلّى ذلك بوضوح في كثافة استخدامه للمشتقات الحسية، مثل: المشتعلة، المتقطعة، المنسكبة، وغيرها من الألفاظ المشبعة بـ”طاقة دلالية” تتجاوز “الوظيفة الوصفية” لتجسّد حالات وجدانية مركبة. فهذه المفردات لا تكتفي بنقل الشعور عبر المجاز، بل تحوّل اللغة إلى جسد للانفعال، حيث تُصبح الكلمات امتداداً حيًّا للحالة الشعورية التي ينقلها النص.
ومع ذلك، يُلاحَظ غياب التنوع في الأوزان والصيغ الصرفية، ما قد يؤدي إلى “انغلاق دلالي” يحصر النصوص في نمط تعبيري واحد. فالتكرار في “التشكيل الصرفي”، وإن منح التجربة طابعاً مميزاً، إلا أنه قد يقيدها ضمن دائرة ضيقة من المعاني، ويقلّل من قدرة النص على توليد دلالات متعددة، ما يُضعف إمكانيات “الانزياح” و”التجريب” في المجال اللغوي، ويؤثر تالياً على ثراء التجربة الفنية وإمكانات تطوّرها.
ـ التكامل بين النحو والصرف:
يتبدّى في “الأعمال” تفاعل دقيق بين النحو والصرف، يُوظّفه الشاعر لبناء نسيج لغوي يُجسّد علاقة متوترة وحميمية بين “الذات” و”اللغة”، من خلال “الضمائر”، خاصة الـ” أنا” و الـ” أنتِ”، ليُؤسّس خطاباً شعرياً يحاكي التوتر بين “الذات” و”الآخر”، في ثنائية “الذكر”https://www.annahar.com/”الأنثى”، حيث يتحوّل الآخر إلى مرآة كاشفة أو محفّز لانكشاف الذات وجدانياً ولغوياً.
هذا التفاعل الحواري يمنح النص بُعداً درامياً، تُصبح فيه اللغة ميداناً للحركة بين الحضور والغياب، والاعتراف والكتمان، في مسار تعبيري كثيف بالإيحاء والانفعال. غير أن هذا الأسلوب، رغم غناه، يعاني من تكرار “ضميري” و”بنيوي” يُفضي إلى “انغلاق تعبيري” يحدّ من تنوّع التجربة ويُقلّص من إمكانيات التحوّل الشعوري داخل النص.
فالإشكالية تتمثل اذن في محدودية التحوّل السردي والصوتي، مما يحصر النص في بعد أحادي، ويمنع النحو والصرف من تجاوز وظيفتهما التركيبية نحو دور دلالي وانفعالي أعمق.
ـ محدودية التخييل وتكرار الحقول الحسية:
يُلاحظ في شعر سعيد تحسين جنوحٌ واضح إلى “الخطاب المباشر”، حيث تنحسر المسافة بين الذات الشاعرة والمخاطب، وتُقدّم التجربة بلغة أقرب إلى “التقريرية” منها إلى “التخييل”. وهذه النزعة تُنتج نصاً يفيض بالعاطفة، لكنه يفتقر أحياناً إلى “المسافة الجمالية” التي تتيح للتخييل الأشتغال بكامل طاقته. فـ”المباشرة العاطفية” لا تترك مجالاً كافياً للتأويل، وتحوّل التجربة إلى لحظة مغلقة على ذاتها.
ويُعزَّز هذا التوجه أيضاً بتكرار “الحقول الحسية” في النصوص، مثل: الحب، النار، الجسد، الشفاه…إلخ من مفردات تتوالد داخل حقول شبه مغلقة، ما يؤدي إلى استنزاف “الطاقة التصويرية”، وتقليل إمكانيات “التجديد المعجمي” والرمزي. وهذا التكرار لا يُضعف طاقة التخييل فحسب، بل يفضي إلى نوع من “الإغلاق النصي” الذي يمنع القارئ من الدخول في علاقة تأويلية متجددة مع النص، فيظل أسير “اللحظة الحسية” المباشرة، دون امتداد رمزي أو درامي يتجاوزها.