ميناء بيروت… قدر محتوم؟ | النهار

ميناء بيروت… قدر محتوم؟ | النهار

شرف أبو شرف

 

أمرّ كلّ يوم أمام مرفأ بيروت، فأراه كما تركه الانفجار: شاهدًا حيًّا على جريمة معلّقة على حبل الزمان، ومرفوعة فوق بحرٍ صامت، لا يقول شيئًا، لكنه لا ينسى شيئًا. ولا تزال المدينة ترزح تحت وطأة جرحٍ لم يُضمّد، وصدمةٍ لم تُستوعب. 

 

بين أنقاض المرفأ ومياه البحر الهادئة ، وبين شمس آب الحارقة ووجوه الغائبين، وجع لا يهدأ، وذاكرة لا تنسى.

 

‎لقد مرّت خمس سنوات على الرابع من آب 2020، يوم دوّى فيه انفجار غيّر وجه العاصمة، وأزهق أرواح 235 شهيدًا، وأصاب ما لا يقل عن ستة آلاف جريح، وشرّد مئات الآلاف من بيوتهم وأمانيهم وذكرياتهم.
‎كنا نظنّها القيامة. غبارٌ، نار، صراخ وركام. مدينة ضربتها يد غادرة وفقدان حس بالمسؤولية ، ثم تركها أصحاب القرار في فراغ. لا يحاسَب أحد ولا يُدان مسؤول . خمس سنوات مضت، ولم تظهر الحقيقة، ولم يُعد بناء ما تهدّم، لا حجارة ولا ثقة.

 

‎بيروت لم تَشفَ بعد. الجراح مفتوحة، والوجع مقيم. شمس آب الحارقة تذكّرنا بذلك النهار ورماله المتحركة ، والبحر الذي لطالما وعدنا بالأمل، صار مرآةً لأحزاننا ومصائبنا المتكرّرة. حتى الصمت في هذا المكان بات له صوت. 

 

‎كيف نتصالح مع حزننا، في غياب العدالة؟ كيف نلملم أرواحنا المكسورة، ونقنع أنفسنا أن المدينة يمكن أن تعود كما كانت، ونحن لم نعد كما كنّا؟

 

‎لقد رحل الأحبّة، لكنّهم لم يغيبوا. هم معنا، في الذاكرة والوجدان. نراهم في الوجوه، في الأصوات، في لحظات الفرح العابرة التي يُفسدها الغياب. نتذكّر أحلامهم، ضحكاتهم، خفّتهم. نتذكر كم غذّوا ألهاماتنا، خياراتنا وسعادتنا. نتذكر دفء وجودهم رغم انقطاع الكهرباء والماء والأزمات الاجتماعية والاقتصادية. نتذكر حرصهم على بناء وطن السلام والإنسان رغم المصائب والعقبات.

 

‎كانوا يعرفون أنّ لبنان وطن على فوهة بركان، لكنّهم آمنوا به. عملوا باندفاع وحيوية ، أعطوا من دون حساب بطيبة وفرح وهدوء وثقة، وعاشوا بكرامة، كما رحلوا بكرامة. فيهم من الضوء ما يكفي لينير عتمتنا، وفيهم من الشجاعة ما يكفي لنُبقي على الأمل حيًّا، برغم الألم.

 

أهراءات القمح في مرفأ بيروت (أرشيف النهار).

 

‎السلام، كما قالت الأم تريزا، يبدأ ببسمة. لكن كيف نبتسم في غياب من كانوا أسباب ابتسامتنا؟ عندما يموت الأبناء قبل آبائهم، تصبح الحياة نفسها جرحًا لا يندمل. بعدهم لم نعد نخاف الموت، بل صرنا نخشاه على من تبقّى في غياب الدولة العادلة السيدة الحرة .
‎ومع ذلك، سنبقى نحبّ هذا البلد. ليس لأننا نرضى بما نحن فيه، بل لأننا نرفضه. اننا نؤمن أن الانهيار ليس قدرًا، وأن قبول الجريمة ليس خيارًا. 

 

‎لا قيامة لوطننا، ولا علاج للصدمة النفسية عند أهالي الشهداء والمتضررين ، ما لم يُفتح باب الحقيقة، ويُحاسب المجرمون، ويأخذ العدل مجراه. وسنظل كلما مررنا بالمرفأ، نذكر من رحلوا ومن بقوا، نذكر بيروت كما كانت، كما يجب أن تكون: مدينةً للفرح والحياة، لا مقبرةً للأحلام.

*نقيب الأطباء السابق