“النهار” في مسافر يطا: تفاصيل قتل الناشط عودة الهذالين

عند الساعة الخامسة من مساء يوم الإثنين 28 تموز/ يوليو، أصابت رصاصة أطلقها المستوطن يانون ليفي صدر الناشط المناهض للاستيطان عودة الهذالين، فاخترقت رئتيه وقلبه وسقط قتيلاً بجانب ابنه البالغ من العمر عامين ونصف عام. كان عودة يقف في ملعب كرة السلة الذي تحوّل إلى خيمة عزاء في قريته الصغيرة خربة أم الخير، يوثق اعتداءات المستوطنين وانتهاكاتهم المستمرة. حاول الشبان والأقارب تقديم الإسعافات الأولية له، لكن الجيش حضر بعد إطلاق النار ونقله في سيارة إسعاف عسكرية، ولا يزال يحتجز جثمانه حتى الآن.
تقع خربة أم الخير، وهي قرية فلسطينية صغيرة، في محافظة الخليل شرق مدينة يطا في الضفة الغربية، ويُقدّر عدد سكانها بنحو 516 نسمة. وهي من قرى مسافر يطا التي تعاني تهديدات المستوطنين ومساعيهم الحثيثة لمحوها من الوجود.
أُقيمت مستوطنة الكرمل على أراضي القرية، وبيوت المستوطنين لا تبعد أكثر من عشرات الأمتار عن بيوت الفلسطينيين المحرومين من استخدام شبكة الكهرباء والمياه. وقال أحد النشطاء الأجانب إن مزرعة الدواجن في المستوطنة تحصل على المياه أكثر من الفلسطينيين المجاورين. وتحتضن القرية الجبل الذي تسلّل إليه المستوطنون وأقاموا عليه مجموعة من “الكرفانات” تمهيداً لإقامة مستوطنة جديدة، لتلتحق بالمستوطنات والبؤر المنتشرة في المنطقة.
صباح ذلك اليوم، شرع مستوطنون في تنفيذ أعمال حفريات جديدة بالقرب من المساكن (الخيم والكرفانات). وبحسب أهالي القرية، فإن هذه الحفريات تأتي في سياق استمرار النشاطات الاستيطانية التي تؤثر على حياة السكان الفلسطينيين في المنطقة، وتمسّ مباشرة أراضي القرية التي يملك السكان وثائق ملكيتها وقراراً رسمياً من المحكمة. لكنهم يخشون من أن تهدد هذه الأعمال ممتلكاتهم وحقوقهم القانونية، إذ إن خطورة استمرار هذه النشاطات ستؤثر على استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي.
وكما في كل منطقة محاطة بالمستوطنين العنيفين، يعرف أهالي أم الخير غريمهم ويذكرون اسمه: المستوطن ليفي وسائق الجرافة القاصر، اللذان قاما بتكسير الأشجار وتدمير خط المياه الرئيسي الواصل إلى القرية، بهدف منع وصول المياه إليهم. دفع ذلك شبان القرية إلى تنفيذ اعتصام سلمي، حيث جلسوا على الأرض لمنع الجرافة من المرور وتحطيم محطة الكهرباء، لكن النتيجة كانت إصابة أحدهم في كتفه، وقيام ليفي بإطلاق النار عشوائياً.
وصلت “النهار” إلى القرية في ساعات الصباح الحارة جداً التي تميز المنطقة خلال شهر آب/أغسطس، بعد انتهاء أمر المنع الذي فُرض عقب إعلانها منطقة عسكرية مغلقة لأيام عدة بعد استشهاد عودة. كانت الشوارع فارغة من المارة، إذ تجمع الأهالي في المركز المجتمعي الذي تحوّل إلى خيمة عزاء كبيرة.
الهذالين هو أحد تسعة قتلى سقطوا برصاص المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وفقاً لمعطيات “هيئة مقاومة الجدار والاستيطان” الفلسطينية، والـ31 منذ بداية حرب الإبادة على غزة، بعدما صعّد الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اعتداءاتهم في الضفة الغربية، إذ يتم استهداف الفلسطينيين بمختلف أشكال القمع، من اعتقالات وهدم منازل إلى التهجير القسري، في سياق مخططات تهدف إلى فرض السيادة والسيطرة على الأرض ومنع التمدد السكاني الفلسطيني الطبيعي، والحدّ من القدرة على الحركة، في مسعى لتهجير السكان طوعاً.
من هو عودة الهذالين؟
شقيقه خليل الهذالين، وهو رئيس المجلس في القرية، قال لـ”النهار” إن عودة أستاذ لغة إنكليزية وناشط حقوقي فلسطيني من مواليد عام 1994، عُرف بموقفه الثابت في الدفاع عن قريته ومناهضة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في مسافر يطا. وساهم بين الأعوام 2019 و2023 في إنتاج الفيلم الوثائقي “لا أرض أخرى” الذي حاز جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل عام 2025، بعدما وثّق معاناة الفلسطينيين في المسافر، وسلّط الضوء على حياتهم التي يقضونها في المقاومة من أجل البقاء والعيش في أرضهم رغم القمع والاستيطان.
وتعود أصول العائلة إلى قبيلة الهذالين، إحدى القبائل البدوية التي استقرت في المنطقة بعدما أُجبرت على النزوح من مدينة بئر السبع عام 1948. أحب عودة منذ صغره تعلم اللغات، وخاصة الإنكليزية، ما دفعه لإكمال دراسته الجامعية في جامعة الخليل، وحصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنكليزية عام 2016. تزوج وأنجب ثلاثة أطفال: وطن، ومحمد، وكنان.
كان يستقبل الوفود الأجنبية من ديبلوماسيين وصحافيين ونشطاء حقوقيين، ويقودهم في جولات توثيقية داخل المناطق المهددة بالهدم، والبيوت التي أصبحت خياماً، والأراضي المصادرة. عُرف بأنه صوت قرية “أم الخير” والمدافع الأول عن سكانها.
ووصف شقيقه المكالمة الهاتفية التي تلقاها من المستشفى بأنها “الأصعب والأشد ألماً وصدمة”، مضيفاً: “تعيّن عليّ إخبار العائلة بمقتله، فتجمدت في مكاني، لا أعرف ماذا أقول أو أفعل. كان شقيقي وصديقي، لم نفترق يوماً. أنا أكبره بأربع سنوات، وكنت أشعر دائماً أنني مسؤول عنه”. وأضاف أن الشرطة الجنائية حضرت اليوم (أمس)، وقامت بالتحقيق وقياس المسافات لتحديد اتجاه إطلاق النار واستكمال القضية. “كل ما نريده هو العدالة لعودة، وأن يتم تسليم جثمانه لنقوم بدفنه كما يجب في أم الخير، لا في يطا أو الخليل كما يطالبون. فالشرطة تريد أن يتم الدفن عند الساعة 1:30 بعد منتصف الليل بحضور 15 شخصاً. هل فعل شقيقي شيئاً معيباً ليُدفن بهذا الشكل؟”.
وختم حديثه بأن والدة عودة وزوجته، إضافة إلى 60 سيدة أخرى من القرية، يواصلن الإضراب عن الطعام منذ خمسة أيام، ويطالبن باستعادة جثمانه “لتشييعه كما يليق بالشهداء”.
ليفي… المستوطن العنيف
كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية ونشطاء أن المستوطن المسؤول عن إطلاق النار هو يانون ليفي، المعروف بتورطه في اعتداءات ممنهجة ضد الفلسطينيين جنوب الضفة الغربية.
يُذكر أن ليفي مُدرج منذ عام 2023 في قوائم العقوبات الأميركية والبريطانية والأوروبية والكندية، وتم رفعه من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ضمن حزمة شُرعت لمحاسبة المستوطنين المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة (ج) من الضفة الغربية، لكن العقوبات المفروضة من كندا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لا تزال سارية.
ورفضت محكمة الصلح في القدس طلباً من الشرطة بتمديد الإقامة الجبرية ليانون ليفي حتى التاسع من آب، فأطلق سراحه وأُخضع للإقامة الجبرية بعد ادعائه أن سكان القرية ونشطاء مؤيدين للفلسطينيين حاولوا عرقلة أعمال بناء كان يقوم بها قرب مستوطنة الكرمل، وزعم أنهم ألقوا الحجارة على الجرافة التي كان يستخدمها، بعدما قامت بتجريف البنية التحتية والأشجار داخل القرية.
وأسس ليفي بؤرة استيطانية زراعية تُدعى “مزارع ميتاريم” في التلال جنوب الخليل، كما يمتلك شركة بناء وهدم متعاقدة مع الجيش الإسرائيلي لتنفيذ عمليات هدم في الضفة الغربية للمباني الفلسطينية “غير القانونية”. ويعمل أيضاً في مدينة غزة، حيث يقوم بأعمال هدم لمصلحة الجيش.
اتهمت منظمات حقوقية ليفي مراراً بالمسؤولية عن العنف الشديد والمضايقات ضد الفلسطينيين، مستخدماً “مزارع ميتاريم” قاعدةً له وللمستوطنين المتطرفين “فتيان التلال” لتخويف المجتمعات المحلية ومهاجمتها، مثل خربة زنوتة، التي هرب سكانها بسبب الاعتداءات والمضايقات من منازلهم في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ووصفوه صراحةً، في التماس قدّموه للمحكمة العليا للمطالبة بالحماية، بأنه أحد أبرز مصادر العنف ضد القرية.