ديبلوماسية تحقيق المكاسب في ظل إدارة التناقضات: كيف يساهم براك في تشكيل مستقبل سوريا وتركيا؟

جمّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب العقوبات المفروضة على سوريا، وشطبت واشنطن “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، استمراراً للدعم الأميركي المتماهي مع الرغبة الإقليمية لدعم الحكومة الانتقالية السورية، ولعب السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الخاص إلى سوريا توم براك دوراً محورياً في التحوّل الأميركي تجاه دمشق والمنطقة.
اعتمد براك سياسات غير تقليدية، إذ شهدت السياسات الأميركية في عهده تحوّلاً عن الخطاب الحقوقي التقليدي إلى مقاربة براغماتية، سريعة ومباشرة، تستند إلى النفوذ الاقتصادي والواقعية السياسية.
وهكذا، دفع براك بالاستثمارات الخليجية في إعادة إعمار سوريا، ورفض اللامركزية للأكراد والدروز والمكوّنات السورية الرافضة لنهج حكومة دمشق الأحادي، مفضلاً نموذج “الحوكمة التعددية” داخل دولة مركزية، عبر التنقل بين مراحل من التشاؤم والتفاؤل لكسر الجمود السياسي، محاولاً تعزيز القناعة داخل أميركا وخارجها بأن استقرار سوريا تحت قيادة أحمد الشرع سينعكس إيجابياً على المنطقة برمّتها.
تحالف ناعم لتفكيك الجمهورية الكمالية؟
يستخدم براك الغموض المتعمّد في تصريحاته الرسمية كنهج ديبلوماسي، مازجاً بين المبادرات الاقتصادية والأهداف السياسية، ليخلق حالة من الغموض حيال أولويات واشنطن الفعلية. وقد نجح في تأليف قصة نجاح تقوم أساساً على التعاون الوثيق مع الدول الخليجية لتشكيل تحالفات مناهضة لإيران في المنطقة.
ويؤدي براك، رجل الأعمال الأميركي، دوراً محورياً في صياغة مقاربة أميركية جديدة تجمع بين الديبلوماسية والاقتصاد لضبط التوازنات الإقليمية، وتتلخص رؤيته في خريطة طريق تركز على تخفيف العقوبات الأميركية لتحفيز إعادة الإعمار في سوريا، وتفعيل شراكات إقليمية تشمل تركيا ودول الخليج، والتنسيق مع “قوات سوريا الديموقراطية” لإنشاء “حاجز أمني” بوجه النفوذ الإيراني وضمان عدم خروج الوضع الميداني في سوريا عن السيطرة بفعل تنامي نفوذ العناصر المتشددة داخل الجيش السوري الجديد.
وعبر شركته الاستثمارية Digital Bridge، يسعى براك لربط رؤوس الأموال الخليجية بالبنية التحتية التركية، وتوسيع شبكات الاتصالات والبيانات في المنطقة، ومواجهة الهيمنة التكنولوجية الصينية. لذا فهو يحرص على تقريب أنقرة وتل أبيب، وتعزيز التعاون الاستخباراتي بين حلفاء واشنطن في المنطقة، مع الدفع نحو تنسيق أوسع بخصوص سوريا.
تتقاطع رؤية براك هذه مع التوجّه الأيديولوجي الجديد للإدارة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يحاول استبدال الهوية الوطنية الجمهورية بهوية إسلامية عابرة للحدود قائمة على فكرة “الأمة”، في ارتداد عن مبادئ أتاتورك التي أسست للجمهورية العلمانية القائمة على مفهوم “المواطنة” بدلاً من “الملة”.
التفاهم الجديد بين “حزب العدالة والتنمية” وحزبي “الحركة القومية” و”ديم” المؤيد للكرد، مقابل تصاعد حملة الاعتقالات ضد رؤساء بلديات “حزب الشعب الجمهوري” وسط صمت أوروبي-أميركي، يمهد الطريق أمام هذه الرؤية.
وهنا تظهر مبادرة Digital Bridge كقوة معززة لتحالف أنقرة مع المحور الغربي في إطار إسلامي مرن يتناقض مع مبادئ العلمانية الصارمة السائدة في تركيا طوال عقود، ما يثير قلق العلمانيين الأتراك الذين باتوا يشيرون إلى براك كشريك غير مباشر في تقويض الإرث الكمالي في البلاد.
وبذلك، يكتسب توم براك بُعداً جديداً في صراع الهوية داخل تركيا: فبينما يقدم نفسه كجسر اقتصادي واستراتيجي بين أنقرة والعواصم الخليجية والغربية، يرى العلمانيون أن دعمه غير المشروط لأردوغان يمنح غطاءً دولياً لمشروع أسلمة الدولة وتهميش المعارضة. وبالتالي، فإن براك – من وجهة نظرهم – ليس مجرد مبعوث، بل عنصر فاعل في إعادة تشكيل “تركيا ما بعد الجمهورية”.
يؤدي براك، رجل الأعمال الأميركي، دوراً محورياً في صياغة مقاربة أميركية جديدة. (أ ف ب)
ديبلوماسي يسير في حقل ألغام
رغم طموحاته، يواجه براك عقبات شائكة، مثل أزمة غزة، وتعقيد الملف الكردي بين أنقرة وواشنطن، والتنافس الخليجي على النفوذ الجيوسياسي في المنطقة، إلى جانب تصاعد الضغوط الداخلية عليه من أجنحة الكونغرس والجيش والاستخبارات.
يلعب براك دوراً حساساً في التنسيق بين وزارة الخارجية الأميركية والأجنحة الأمنية والعسكرية في ملفات الشرق الأوسط، وسوريا خصوصاً، وقد تعثرت جهوده في ملف التحقيق في مقتل حسام سرايا، المواطن الأميركي من أصول سورية، والذي قُتل في أحداث السويداء الأخيرة.
تحوّل ملف سرايا إلى قضية رأي عام في البلاد، ما يزيد الضغوط على إدارة ترامب قبل انتخابات الكونغرس 2026، ويدفع ممثل الرئيس الأميركي لمحاولة تهدئة الوضع محلياً، وإدارة الأزمة الخارجية، وهو ما يفسّر تصريحاته الأخيرة حين كشف عن عدم وجود خطة لإزالة سوريا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب.
في الوقت ذاته، تشبه مهمة براك لإيجاد التوازن المطلوب بين تحالف بلاده السياسي مع تركيا والعسكري مع “قسد” السير في حقل ألغام. فقد نال رضى أنقرة بوصفه “قسد” أحد أجنحة “حزب العمال الكردستاني”، لكن اجتماعاته الأخيرة مع قيادات التنظيم لبحث مشاركتهم في المرحلة الانتقالية السورية، وإشادته بدور قائده الجنرال مظلوم عبدي، قوبلت بريبة وشك من الجانب التركي.
يدفع براك باتجاه استخدام مساعدات إعادة الإعمار كورقة ضغط على دمشق، لكنه يخشى أن تؤدي هذه الضغوط إلى توجه حكومة الشرع نحو موسكو التي تملك القدرة على منافسة النفوذ الأميركي في سوريا والمنطقة.
اتهامات بخيانة القيم الأميركية
فتحت الناشطة المقربة من ترامب، لورا لومر، النار على براك متهمة إياه بأنه يخدم مصالح إسلامية على حساب القيم الأميركية، بناءً على قربه من تركيا و”حمايته” المزعومة لجماعات مثل “الإخوان المسلمين”، مع ربط ذلك بملفات مالية سابقة، منها تحقيق وزارة العدل عام 2021 بشأن تضارب المصالح.
ولومر، المعروفة بنفوذها داخل التيار الترامبي، سهّل تزايد التوتر في السويداء وتفاقم التحديات الأمنية على الحدود السورية-الإسرائيلية، وسط فشل سياسات براك، من مهمّتها.
براك لا يلعب فقط دور المبعوث، بل يجسد استراتيجية أميركية مزدوجة: من جهة محاولة ضبط المشهد السوري المتشظي، ومن جهة أخرى إرضاء الحلفاء التقليديين واحتواء الخصوم. لكن هذا الدور محفوف بالتناقضات، في ظل الغموض الذي يكتنف حسم خطوط التماس الديبلوماسية بين التصريحات الأميركية وتصرفات أجنحتها المختلفة.