الوقت الإضافي لرنيم ضاهر: شعر يت unravel ببطء

الوقت الإضافي لرنيم ضاهر: شعر يت unravel ببطء

بهاء إيعالي

تبرزُ مجموعة “وقتٌ إضافيٌّ يصلُ فجأة” للشاعرة اللبنانيَّة رنيم ضاهر (دار النهضة العربيَّة – 2025) كعملٍ شعريٍّ متميِّزٍ يرفض الالتزام بالبنى الكبرى والمقولات الجامدة التي تحكم الهويَّة والذات، فالنصوص هنا لا تسعى إلى بناء سردٍ متماسك، بل إلى استدعاء الحافة بوصفها فضاءً حَدِّيًّا يتشكَّل فيه الوجود الشعري، حيث الذات تتكوَّن وتتفتَّت في آنٍ معًا. هذا التوتُّر بين التكوين والتفكُّك، بين الانبعاث والانهيار، هو ما يمنحُ الديوان أبعادهُ العميقة، حيث تتحوَّل الشاعرة من راوٍ موحَّدٍ إلى ذاتٍ متعدِّدة الوجوه، تتشظَّى وتتقمَّص أقنعة اللغة والصورة، كأنَّها تودِّع يقين العالم المألوف لتستشرف فضاءاتٍ جديدةٍ للوجود والوعي.

لا يهدفُ توظيف الشعر في هذه المجموعةِ إلى تأسيس عوالمَ جديدةٍ بقدرِ ما هو وسيلةُ نجاةٍ من القلق الوجوديِّ ومن اليقين الصارم الذي يفرضه الواقع، وهو نوعٌ من التمرُّد على الأنظمة الكبرى، سواء كانت ثقافيَّة، معرفيَّةً أو حتى نفسيَّة. بهذا المعنى، تصبحُ قصائدُ صاحبة “أتثاءب في مخيِّلة قطَّة” حقلًا مفتوحًا على تفكيك تموضعات الأنوثة، تصوُّرات الشاعرة عن ذاتها، اشتغالات الذاكرة وهجانة التمثيلات الثقافيَّة التي تنبثق من التصادمِ بين ذواتٍ متعدِّدةٍ ومتنوِّعة.

الشاعرة بوصفها أنثى ثالثة
منذ القصيدة الأولى، تُجسِّد ضاهر حضور “الأنثى الثالثة” بوصفها هويَّةً متحوِّلةً ومتعدِّدة الأبعاد، ما يعكسُ تمردًا على التصنيفات الثنائيَّة التقليديَّة للهويَّة والجندر. منذ الوهلة الأولى، لا تقدم الشاعرة ذاتًا ثابتةً أو موحَّدة، بل تشكِّل نصوصها فسيفساء من ذواتٍ متباينة، تتصارعُ وتتداخلُ في آنٍ واحد. ويتَّضحُ ذلك في قصيدة “تعويذة” حين تقول: “أكتبُ لأصير امرأةً ثالثة / قلبُها أضعف من عطري”، حيث يتحوَّل فعلُ الكتابة إلى عمليَّة انشطار، وإعادة بناءٍ مستمرَّة للذات بعيدًا عن التحديدات الجامدة.

هذا التعدُّد أو التفكُّك الذاتيُّ لا يعبِّرُ عن تعدُّدية الهويَّة فحسب، بل عن انفجارٍ مستمرٍّ للذات في مواجهة محاولات التصنيف والتحديد، فالشاعرة لا تكتفي بالتشظي الكتابي بل توظِّفُ الكتابة كوسيلةٍ لتجاوز الحدود، لتصبح امرأةً ثانية، ثمَّ أولى، في تحوُّلٍ مستمرٍّ ومتعدِّد، وهو ما يمثل نوعًا من التمرُّد الداخلي على الزمن الخطِّي والكيانات الثابتة.

من منظورٍ فلسفيٍّ نقدي، تتلاقى هذه الرؤية مع أفكار جاك دريدا في التفكيك، حيث يفقِدُ مفهوم الذات جوهره الثابت ويصبح معرَّضًا للنفي والتغيُّر المستمر. والكتابة هنا ليست مجرد نقلٍ أو تدوين، بل فعلٌ انزياحيٌّ وخلقٌ لمواقعَ جديدةٍ للذات والهويَّة، والذات ليست أصلًا جامدًا بل أثرًا متحوِّلًا يتغيَّر مع كلِّ فعلِ كتابة، وهو ما يعكسه دريدا في مفهوم “الاختلاف” (différance) الذي يزيح المعنى الثابت ويؤجِّل الوصول إليه.

من جهةٍ أخرى، ترتبط هذه الرؤية بأطروحات جوديث بتلر في “أداء الجندر” (Gender Performativity)، التي لا ترى الهويَّة الجندريَّة كحقيقةٍ بيولوجيَّةٍ ثابتة، بل كأداءٍ متكرِّرٍ يُعيد الفرد إنتاجه عبر سلوكيَّاتٍ متغيِّرة. هذه الفكرة تنطبق على ديوان ضاهر حيث تحوِّلُ الذات الأنثوية إلى “أداءٍ” متعدِّدٍ ومتغيِّر، أداءٌ يرفضُ الثنائيَّةَ الحادَّة للذكورة والأنوثة، ويتجاوزها عبر التكرار والاختلاف، منتجًا بذلك هويَّةً جندريَّةً ثالثة، مرنةً وغير قابلةٍ للحصر.

في قولها: “أكتبُ كي ننجو ثلاثتنا / من البحيرة التي تتَشتَّت / والحبوب المهدئة / والأقراط التي بهت نصف عمرها”، تظهرُ الكتابةَ كوسيلةِ نجاةٍ حيويَّةٍ من التشتُّت والهامشيَّة، فالكتابة هنا ليست مجرَّدَ تعبير، بل هي فعلُ مقاومةٍ تُفكِّكُ به الحدود الصارمة للذات وتعيد تركيبها في تعدديَّة تنقذها من الضياع. بهذا تنجحُ رنيم ضاهر في تحطيم منطقِ الهويَّة الواحدة وتقديم رؤيةٍ معاصرةٍ ومغايرةٍ للذات والأنوثة.

تهجينٌ ثقافيٌّ أم تفكيكٌ للسلطة الرمزيَّة؟
يُشكِّل استدعاء شخصيَّاتٍ مثل سيلفيا بلاث، الليدي ديانا، فريدريش نيتشه، وصادق هدايت داخل فضاء المجموعة مدخلًا ثقافيًا هجينًا يُعيد تركيب النصوص والمرجعيَّات عبر شبكةٍ من التداخلات التي تتجاوز الحدودَ التقليديَّة بين الشرق والغرب، الكلاسيكيِّ والمعاصر، الفرديِّ والكوني. هذا التهجين لا يقتصرُ على مجرَّد الاقتباس أو الإشارة، بل هو فعلٌ نقديٌّ موجَّهٌ لتفكيك السلطة الرمزية لهذه الشخصيات وتحويلها من رموزٍ جامدةٍ إلى عناصر ديناميكيَّةٍ تتفاعلُ مع الذات الشعرية في علاقةٍ معقَّدةٍ من المقاومة والتوليد.

 

غلاف مجموعة “وقتٌ إضافيٌّ يصل فجأة“. (دار النهضة)

 

من منظور النقد الثقافي وما بعد الكولونيالي، يُعتبر هذا التهجين أداةً مركزيَّةً في مقاومة الهيمنة الثقافية الغربيَّة، ويؤكد هومي بهابها على أن هذه العمليَّة ليست دمجًا للثقافات فحسب، بل إنتاجُ “مساحاتٍ وسطيَّةٍ” (Third Spaces) تتيح إعادة تعريف الهويَّة وتشكيلِ خطابٍ مغاير. هذه المساحاتُ تتحوَّلُ في مجموعة ضاهر إلى حقلٍ شعريٍّ يُعيدُ تموضع الرموز الغربية الكبرى ضمن سياقٍ حيويٍّ يدمجُ الهامشي والرمزي في تفاعلٍ يُعيد رسم خريطة السلطة والمعنى.

على سبيل المثال، في قصيدة “الموت الأخير”، تعيد ضاهر تشكيلَ صورة سيلفيا بلاث عبر تأطيرها في موقفٍ أنثويٍّ كونيٍّ متجاوزٍ للذات الفرديَّة، حيث تصفها بـ”المتوحدة كالعشب / تحت سماء متناقضة / أوصدت العالم على مطبخها”. هذه الصورة تجسِّدُ حالةً من الانعزال والتمرُّد، لكن ضمنَ فضاءٍ نسائيٍّ جماعيٍّ يشكِّلُ حالةً من المقاومة النفسيَّة والاجتماعية. كذلك تستخدم الشاعرة، في قصيدة “نيتشه”، خطابًا متمردًا على السلطة الذكوريَّة للفلسفة الغربيَّة، حيث تقول: “هل أهدتك أمك السمّ / المغمَّس بصمتِك كالمكان؟”، إنَّها عبارةٌ تستدعي تجرُّع السمِّ كرمزٍ للمعاناة والتحدِّي، وتُحوِّلُ نيتشه من فيلسوفٍ متعالٍ إلى شخصيَّةٍ معرَّضةٍ للسخرية والاختزال.

بهذا الأسلوب لا تكتفي الشاعرة بالاقتباس، بل تخترقُ الرموز الثقافيَّة لتحطيم أساطيرها، فتفكِّكُ سلطةَ الفضاء الغربي الكولونيالي عبر شعريَّتها الخاصة، وتعيدُ بناءها كمساحاتٍ جديدةٍ من القوَّة والحضور الهجيني. هذه العملية تستند إلى نقد ما بعد البنيوية، الذي يرفض البنى الكبرى والثابتة ويؤكد على التنوع والتعدد والاختلاف. بذلك يصبح «وقتٌ إضافيٌّ يصل فجأة» نصًا ما بعد حداثيًا يمارس تفكيكًا ثقافيًا عميقًا، ويصوغ هويَّاتٍ جديدةٍ من خلال التهجين والاختلاف.

العدم، كينونةٌ بديلةٌ للوجود
يُحضرُ الموت كموضوعٍ محوريٍّ يتجاوزُ كونه نهايةً بيولوجيَّةً أو ميتافيزيقيَّة كي يصبحَ حالةً وجوديَّةً معقَّدةً تُعيد قراءة معنى الحياة والكينونة ذاتها. هذا الحضور يتماهى مع فلسفة الوجود التي تناولها ألبير كامو وجان بول سارتر، حيث لا يُنظَر إلى العدم بوصفه فراغًا نهائيًا، بل بوصفِه تحدِّيًا يحفِّزُ الفرد على خلق معنى شخصيٍّ في عالمٍ تبدو فيه الحياة عبثيَّةً بلا غايةٍ واضحة.
في قصيدة “إغماء”، تبرزُ صورة الموت على نحوٍ مفاجئٍ وغير مألوف: “الموتُ طفل / يدوس على الورود / وبنفس المنطق الضائع / يروّج للوقوع في الحفر”. هذا التصوير يجعل من الموت كائنًا بشريًا فاعلًا، مفعمًا بالعفويَّة واللا منطق، لا غايةً أو غموضًا ميتافيزيقيًّا. الموت هنا فعلٌ وحركة، إشارةٌ إلى حالة فوضى العالم والذات، ممَّا يضفي على الموت طابعًا واقعيًّا وجدليًّا بعيدًا عن المبالغات الرومانسيَّة أو الترويجيَّة.

أما في قصيدة “دعاء”، فتُعبِّرُ الشاعرة عن لحظةِ أزمةِ منتصف العمر كفوضى نفسيَّةٍ وذوبانٍ في الخسارة: “سأصاب بلوثةِ منتصف العمر / وأفقدُ يدي في بحيرة / حين يهبط القمر”. هذه الصورة الشعريَّة تُوحي بفقدانِ السيطرة والانهيار التدريجي للذات، وهو امتدادٌ طبيعيٌّ للوجودِ المأزوم الذي لا يملك ضماناتٍ للثبات أو للاستقرار. هنا لا تمجِّدُ ضاهر الهاوية أو العدم، لكنَّها تسلِّط الضوء على التصالح الممكن مع هشاشة الحياة والذات، في خطوةٍ نحو فهمٍ أعمق للوجود الإنساني.

يمكننا قراءة هذا التناول للموت والعدم في ضوءِ المفاهيم الوجوديَّة التي ترفضُ المعاني الجاهزة وتدعو إلى مواجهةِ القلق والعبث بشجاعةٍ لإنتاج معنى شخصي، فالموت وفق هذه الرؤية ليس عدوًا، بل إنَّه جزءٌ لا يتجزَّأ من تجربة الوجود ويُعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم، ويخلق من فراغه مسرحًا للنضال الإنسانيِّ والتصالحِ مع الواقع.

جسد اللغة، لغة الجسد
تُجسِّدُ رنيم ضاهر الجسدَ بوصفه مركزَ اللغة والكتابة، متجاوزةً الفهم التقليديَّ للجسد ككيانٍ بيولوجيٍّ منفصلٍ عن اللغة والروح. هنا يتحوَّلُ الجسد إلى فضاءٍ إنتاجيٍّ لا يُعيد تعريفه كمجرَّدِ موضوعٍ شعري، بل كلغةٍ تتكلَّم وتكتب وتقاوم، كونه “بؤرة اللغة” التي تنبض بصراعات الهويَّة والذات والجنس.

 

الشاعرة رنيم ضاهر ومجموعتها الشعرية. (دار النهضة)

الشاعرة رنيم ضاهر ومجموعتها الشعرية. (دار النهضة)

 

تأتي قصيدة “ضوء ناقص” لتُبرِز هذا التداخل العميق بين الجسد واللغة، حيث تقول الشاعرة: “كوني ثمرة بطنٍ رخوة / أجترُّ حزني / مثل اسمٍ مستعار”. هذه الصورة تجمع بين البيولوجيا (ثمرة بطنٍ رخوة) واللغة (اسم مستعار)، موحيةً بأنَّ الجسد ليس ثباتًا بيولوجيًّا، بل هو تأثيرٌ لغويٌّ يمر عبر الزمن والسياقات الاجتماعيَّة، قابلٌ للتحوُّل والتغيير. هذا يعني أنَّ الجسد يُعادُ إنتاجه في كلِّ لحظة، ويصبحُ مسرحًا للتوتُّرات النسويَّة التي تكسرُ الهيمنة الذكوريَّة على الخطاب.

هذا التداخل بين الجسد والكتابة يستدعي نظرية “كتابة الجسد” التي طورتها هيلين سيكسو (Hélène Cixous) في سياق أبحاثها عن الكتابة النسويَّة، والتي ترى في اللغة أداة تحرُّرٍ نسويَّةٍ تعبِّر عن تجربة الجسد الأنثوي بطريقةٍ متفرِّدة، غير محكومةٍ بالبنى اللغويَّة الذكوريَّة التقليدية. في قصائد ضاهر، لا نقرأ عن الجسد كموضوع، بل نقرأ جسدًا “يكتب” ويصرخ، يتلوَّى ويتمرأى، ممَّا يخلق لغةً شعريَّةً جديدة تنبضُ بالحياة والتمرُّد، بالضعفِ والقوَّة، في آنٍ واحد.

هذه الكتابة الجسديَّة تُعيدُ تشكيل العلاقة بين الذات والجسد، وتفكِّك الخطابات السائدة التي تحصرُ الجسد الأنثويَّ ضمنَ أطرٍ مغلقةٍ وثابتة. الجسدُ هنا هو فعلُ مقاومةٍ وكتابةٍ مستمرَّةٍ للذات، تجربةٌ حسيَّةٌ وفكريَّةُ تنسفُ المنطق الذكوريَّ وتطرح عوالمَ جديدةً من التعبير والوجود.

ضدَّ السرد الكبير
تتجلى كتابة رنيم ضاهر في هذه المجموعة كتحرُّرٍ من السرديَّات الكبرى التي تهيمِن على الخطاب الأدبي والثقافي لتتجه نحو جماليَّات الهامش والتفاصيل الدقيقة التي تُغيِّبها الروايات الكليَّة. هذا الانحيازُ لجماليَّات اللاحدث والتفاصيل الهشَّة يفتح فضاءً شعريًّا مضادًّا للرواية الكبرى، حيث تتحوَّل الأشياءُ العاديَّة والمُهملة (مثل “جورب عمَّةٍ ميِّتة” أو “رائحةٍ غير مكتملة”) إلى علاماتٍ دالَّة تحفرُ في التجربة الإنسانيَّة من منظورٍ جديدٍ وغير تقليدي. ووفقًا لفيلسوف ما بعد الحداثة جان-فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard)، يرفُضُ هذا التوجُّهُ ما يُسمَّى بـ”السرديات الكبرى”، وهي القصصُ الشموليَّة التي تدَّعي احتكار الحقيقة وتفرِضُ نظامًا موحَّدًا للفهم. وبهذا يصبح النصُّ الشعري في الديوان فضاءً مفتوحًا للتعدُّدية والتنوع، حيث يُترَك للقارئ مهمَّة إعادة تركيبِ المعنى ضمن إطارٍ يتَّسم بالتمدُّد وعدم الانغلاق.

تتماشى هذه الرؤية مع “نظرية التلقِّي” (Reception Theory) التي طوَّرها هانس روبرت ياوس (Hans Robert Jauss)، والتي تؤكد أن النص الأدبي ليس كيانًا مغلقًا ذا معنى ثابت، بل عمليَّةٌ تفاعليَّةٌ يشارك فيها القارئ بشكلٍ فعَّال، يضيف ويعيد تشكيلَ المعنى بحسبِ تجاربه ورؤاه. في شعر ضاهر، تصبحُ القراءة تجربةً حيَّةً تنمو مع كلِّ لقاءٍ مع النص، حيث “اللاحدث” والتعليق على التفاصيل الهامشيَّة يشكِّلان عالمًا من الاحتمالات المفتوحة.

تعبِّرُ الشاعرة في قولها: “أتظاهر أنَّني أعمق من قوقعة / كي لا أنتهي بين الجمهور / كثوبٍ طائشٍ أو بوستر مشقَّق” عن رغبةٍ في الهروب من التجانسِ والاكتمال المسبَق لتظلَّ في حالةٍ من الطيش والتمرُّد، حيثُ تحافظُ على غموضها وتمزُّقها الداخلي بعيدًا عن التوقُّعات الجماهيريَّة والسرديَّات الجاهزة.

بهذا الشكل يتجسَّد في الديوان رفض البنى الكبرى السائدة، وتُحوَّل التفاصيل إلى لغةِ مقاومةٍ تنسج من هامشيَّات الحياة نصًّا يحتفي بتفرُّد اللحظة وحركتها غير المستقرَّة.

كتابة الهامش كاستراتيجية للبقاء
تمثِّلُ مجموعة “وقتٌ إضافيٌّ يصل فجأة” تجربةً شعريَّةً فريدةً في المشهد الأدبي المعاصر، إذ ترفض الاختزال في قالبٍ موضوعيٍّ أو نمطيٍّ ضيق لتُقدِّمَ نصًّا معقَّدًا متعدِّد الطبقات يعتمدُ على تفكيك المعنى وتحرير الصوت من قيود الوحدة والتجانس. هذا النص الأنثويُّ لا يسعى إلى نيل الاعتراف أو التوافق مع القوالب السائدة، بل يتقن فنَّ الخروج عنها، مسلحًا بمخيِّلة مفكَّكةٍ تشتغلُ على ذاكرةٍ حدسيَّةٍ وسخريةٍ كاويةٍ توجِّه تحديًّا مباشرًا ليقينيَّات العالم الراسخة.

كذلك تتجلَّى القصائدُ كنصوصٍ ما بعد حداثيَّةٍ بامتياز، حيث لا تعمدُ إلى تقديم العالم كما هو، بل تعكسُ تشظِّيه وتفتُّته من خلال كتابةٍ تتجاوز السرديَّات الكبرى، وتنتج المعنى من اللاحدث والتفاصيل الهامشيَّة. هنا يتحوَّلُ الشعر من فعل روايةٍ إلى فعل ارتكاب، من وصفٍ إلى كشف، ممَّا يمنحه القدرة على مقاومة الانهيار والتشتُّتِ العنيف للذات والواقع.

من هذا المنطلق، يُمكن القول إنَّ الشاعرة لا تمنح الشعر “وقتًا إضافيًّا” كي ينتهي سريعًا أو يُطوى دفعةً واحدة، بل كي يتشظَّى ببطءٍ وبصبر، مثل أنثى تحاولُ الكتابة من أجل النجاة، من أجل الاحتفاظ بالذات وسط العواصف المتعدِّدة. إذًا تتحوَّلُ الكتابة إلى فعل بقاء، إلى استراتيجيَّةٍ لمقاومة السقوط في الهاوية، وإلى فسحةٍ تستدعي الاستمراريَّة والتمدُّد رغم هشاشة الوجود وتعقيداته.

بهذا المعنى، تقدِّم هذه المجموعة مساهمةً شعريَّةً وأدبيَّةً تستحقُّ التأمُّل والنقد لما تحمله من إمكانيَّاتٍ جديدةٍ لفهم الذات والهويَّة واللغة، وذلك في عالمٍ متغيِّرٍ يعاني من تشظِّياتٍ متزايدةٍ ويحتاج إلى أصوات جريئةٍ تسبر أغوار الحافة وتحوِّلُها إلى فضاءاتٍ حيَّةٍ للإبداع والتجديد.