هل انهار نظام الأسد فعلاً؟

هل انهار نظام الأسد فعلاً؟

د. يحيى العريضي*

سؤالٌ يبدو جديراً بالطرح عقب تسعة أشهر من حكمٍ يُفترض أن يكون انتقالياً، إلى نموذج بديلٍ للاستبداد. إلا أن “السلطة الانتقالية”، عادت لإنتاج منطق القمع، بعقلية شبيهة بتلك التي دفع السوريون لأجلها آلاف الشهداء. وفي الوقت الذي تتجه أنظارنا إلى دولة عنوانها حرية الإنسان، صُدمنا بنية مبيتة لتصفية الهوية السورية المتنوعة، واستماتة للبقاء في الحكم على حساب روابط السوريين بوطنهم وعيشهم المشترك.

غزو السويداء!!!! الاستبداد بقناع التحرير:
لم يكن الهجوم البربري على السويداء حملة عسكرية وحسب، بل أنه حدثٌ كاشف  عرّى زيف الشعارات، وكشف التناقض البنيوي بين خطاب التبشير بتحرير الإنسان؛ ونية الاستئثار بالحكم. الأخطر من هذا الغزو هو السياق السياسي الذي سبقه. فهو ليس برد فعل طارئ، ولا نتاجاً لتطور ميداني، بل أنه ثمار طاولات مستديرة، جرى التفاوض فيها على هوية السوريين، لا من أجلهم. مداولات فاوض فيها “القائد الفاتح” على كرسيّ الحكم، لا على حقوق السوريين الذين رفضوا الاصطفاف خلف مشروع الهيمنة باسم”التحرير.” وكأن السويداء ليست سوريةً، استباحتها جحافل عسكرية تحت مسمّى “بسط سلطة الدولة”، ليرسموا ببنادقهم  مشهد إخضاع قسري، ومشاهد التصفيات الميدانية الجماعية، وحرق المنازل، وإهانة كرامة الإنسان. حتّى أولئك الذين لم تفارق أصواتهم “ساحة الكرامة” يهتفون ضد الأسد؛ قتلتهم آلة الموت مرة، وقتلهم خذلان من هتفوا لهم مرات، ثم نددت بقتلهم أمم العالم المتحدة.

تجديد لأدوات الاستبداد 
اعتادت السويداء على تقديم القرابين لكرامة الوطن.. لا بأس. إلا أن “القيادة الحكيمة الجديدة”، جددت نهج “القيادة الحكيمة البائدة”، فاستثمرت في خلافها السياسي مع الشيخ حكمت الهجري، وحوّلته إلى خلاف طائفي سني-درزي. أيعقل أن يختزل مكوّن سوريّ كامل بشخص واحد؟ عندها، انبرى المدافعون عن قيادتهم الحكيمة، وهموا بالتحريض الطائفي لتبرير القتل والإجرام. فالسويداء، بمن يعيش بها، استفاقوا ليجدوا أنفسهم تهديداً وجودياً للدولة الفتية، ويُشرّع قتلهم وحصارهم والطغيان عليهم، ثم بعد أن يقتلوا ويُحاصروا؛ يطمئنهم “أحدهم” دبلوماسياً بأن “الحكومة لا تنوي إبادة الدروز”.

تحت الظلال القاتمة (لمن تمنّى أن يعفيه السوريون من مهام “القيادة” ، ثم ما لبث أن نصّب نفسه وصياً عليهم)؛ تفككت وتهشمت هوية التعايش المشترك، وتحطّمت أحلام شعب لطالما حلم بدولة العدالة. تحت ظلال من تعلموا في مدارس نظام الأسد سرديةَ أنه لا بديل آخر، يعاد إنتاج نموذج الاستبداد، وتُستنسخ أدوات التفرقة والاقتتال التي لطالما استخدمها نظام الأسد ليفتك بالسوريين. وهنا، سيكون علينا أن نسأل ضمائرنا،. هل سقط الأسد حقاً؟

بين حصار مضايا 2015 وحصار السويداء 2025: لم يسقط الاستبداد!!
في العام 2015، حاصرت آلة الموت مدينة مضايا، واستخدم التجويع كأدة قمع وإبادة منهجية، علّها تُسكتُ نداء التغيير. نعم. سقط الأسد؛ لكن أدواته لم تسقط، وها نحن بعد عشر سنوات، نشهد تلك الأدوات في السويداء، حين تبدلت الشخصيات، وبقيت السياسات ذاتها لتفكك الوطن، وتُخضع الجميع لمن “حرر فقرر”.
جلُّ السويدائيين طالبوا بدولةً مدنية، يعيش فيها الجميع تحت سقف القانون؛ دولة قانون تحترم جميع أبنائها، لا تندمج فيها مؤسسات الدولة بشخص “القائد المفدى”. والآن. نصف مليون سوريّ في السويداء تحت الحصار؛ بلا مقومات للحياة، وبمشهدية ظالمة، رسمتهم فيها “سلطة التحرير” كعائق أمام مسيرة التطوير والتحديث، وعقبة أمام نماذج التقدم والازدهار التي لا تزال في فضاء المؤتمرات وأمام عدسات الكاميرات؛ فأبيح قتلهم ممن يهللون للصفقات.

ليس مستغرباً منهج الطغيان لمن يهرول للاستئثار بالسلطة. إنّما المستغرب حقاً هو استهداف مكوّن كامل، رفض مشاركة النظام البائد بقتل أشقائه، ومنع أبناءه من الانضمام لجيش السفاح. مكوّن أصيل احتضن آلاف من السوريين ضيوفاً، وأعاد إحياء الثورة في العام 2023 حين تجرّأت الدول التي تدعم “القيادة الحكيمة الجديدة” حالياً على إعادة التطبيع مع الأسد سابقاً. يبدو بالفعل أن من يتولى قيادة “الانتقال” قرر معاقبة السويداء، وكل سوريّ حر شريف، ليس لأنها أو أنهم تهديد للأمن، بل لأنها ولأنهم يهددون شرعيته التي استمدها من بعض الصفقات الخارجية، ومن هتاف بعض “المكوّعين”، أو من أولئك الذين أقسموا ولاءهم للأسد سابقاً، ويقسمون الآن الولاء لخليفته.
لن تكون الحرية الحقيقة إلا بإرادة السوريين… السوريين فقط.
لا تنتظر السويداء الجريحة -التي لن تُفصلَ عن أمها سورية- بيانات إدانةٍ أممية أو تلميحات لفشل عملية الانتقال. إنما تنتظر السوريين الذين هتفت ضمائرهم لإسقاط الطاغية الأسد سابقاً، والذين باتوا يدركون اليوم أن الثورة مستمرة. السوريون الذين يدركون أن الحرية لن تُختزل بشعارات برّاقة، ولا بصيغ مفروضة من قوى إقليمية ودولية؛ بل هي صميم وجدان هذا الشعب الذي صدح صوته بإسقاط الأسد ليكسر نير الاستبداد، لا ليستبدل الطاغية بطاغية جديد.
إلى “المتسلطين الجدد” الذين يحاولون إخضاع السوريين بمنطق القوة والبطش، وتقديمهم قرابين للبقاء في السلطة…
لقد آن الأوان لصحوة هذا الشعب المكلوم، وآن الأوان لولادة قيادة سياسية مدنية تشاركية تستمد شرعيتها من هوية السوريين وتنوعهم، ومن مطالب الحرية والكرامة والعدالة، و من تضحيات السوريين الفريدة؛ لا من صفقات مشبوهة ولا من أجندات خارجية، و لا من تقديم أوراق اعتماد لمحتل الأرض، ولا من أدوات قمع وإرهاب ممنهج. فاستمرار الحال القائم تآمرياً على هذا الشعب يعني استمرار دورة العنف والقهر التي قهرت أجيالًا من السوريين، وهدّمت حلم الحرية الذي ناضلنا من أجله. آن الأوان ليحضر قرار هذا الشعب، ليس كخيار سياسي، بل واجب أخلاقي علينا نحن جميعاً كأبناء هذه الأرض السورية الطاهرة، لنكتب نهاية معاناتنا ونحافظ على كياننا وتاريخنا ومستقبلنا.

 

سياسي وأكاديمي سوري*