البطريرك الراعي أثناء قداس في إهدن: البطريرك أسطفان الدويهي كان عالماً متعمقاً في اللاهوت والعقيدة.

البطريرك الراعي أثناء قداس في إهدن: البطريرك أسطفان الدويهي كان عالماً متعمقاً في اللاهوت والعقيدة.

توج البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي احتفالات رعية إهدن – زغرتا بذكرى مولد الطوباوي البطريرك أسطفان الدويهي والذكرى السنوية الأولى لإعلان طوباويته. 

 

ترأس غبطته قداساً احتفالياً في كنيسة مار جرجس إهدن التي وصلها من الديمان قرابة الساعة الخامسة والنصف، وجرى له استقبال حاشد عند مدخل إهدن الجنوبي بقرب كنيسة مار ماما الاثرية حيث كان في الاستقبال جمع من الأهالي والأخويات والحركات الرسولية والكشافة والكهنة والمطارنة، وانتقل البطريرك إلى الكنيسة التي تحوي ذخائر الطوباوي الدويهي وضريح يوسف بك كرم وسط قرع الأجراس والزغاريد وحرق البخور.

 

البطريرك الراعي. (النهار)

 

 

وعند السادسة تراس غبطته قداساً احتفالياً حضرته فعاليات زغرتا السياسية والاجتماعية والعسكرية وجمع من المؤمنين، وبعد الإنجيل المقدس ألقى غبطته عظة من وحي المناسبة تناول فيها الدويهيي البطريرك والرحل المدافع عن الوطن والموارنة، وقال البطريرك:

 

1. وقعت دعوة المسيح هذه في قلب الطوباويّ أسطفان الدويهي، الذي يجمعنا هذا المساء، عشيّة ذكرى مولده في 2 آب 1630. لم تكن هذه الدعوة، بالنسبة إليه، عابرة، بل كانت دعوة حياة. الزهد هنا لا يعني اإنكار الذات لمجرّد التقشف، بل هو التحرّر من عبودية الأنا، والارتقاء إلى حبّ الله من دون قيد. الزهد الحقيقي هو بداية السير على درب المسيح، حيث يصبح حَملُ الصليب طاعةَ محبّة، لا خضوعاً قاسياً. الطوباوي البطريرك أسطفان زاهد بنفسه، وحمل صليبه، وتبع سيده بثبات في جميع مراحل حياته.

 

2.يسعدني أن أحييكم جميعاً، وقد توافدتم من كل مكان، للاحتفال معنا بهذه الليتورجيا الإلهية التي نكرّم فيها ذكرى مولد الطوباوي البطريرك أسطفان الدويهي، ابن هذه المدينة إهدن، منبتِ البطاركة العظام والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين العلمانيين، وأرضِ رؤساء الجمهوريات، ورجال الثقافة والسياسة والشأن العام.

 

3. الطوباوي البطريرك كان لاهوتياً متبحّراً في العقيدة، كنسياً في العمق، مؤرخاً دقيقاً، كاتباً غزيراً، ورجلاً يوازن بين الإيمان والعقل، بين التقليد والتجدّد. وكان مربّياً للأجيال، ورائداً في الدفاع عن الهوية المارونية، ومقاوماً لكل محاولة تفتيتٍ أو تشويهٍ. عاش كاهناً قديساً، وأسقفاً ورعاً مثقّفاً، وبطريركاً مدبّراً شجاعاً، فأعلنته الكنيسة طوباوياً، واليوم نواكب بالصلاة دعوى رفعه قديساً فوق المذابح في كنائس العالم.

 

4. وُلد في زمن الشدائد والانقسامات، فحمل شعلة الإيمان والعِلم، وتربّى على التقوى والصلابة في الرؤية. عاش في روميه، وتثقّف في جامعاتها، لكنه ظلّ أميناً لتراث كنيسته المارونية، وعاد ليصير أسقفاً وبطريركاً في أحلك الظروف، وراح يكتب ويحفظ ويدوّن، حتى صار حارس التاريخ واللاهوت والليتورجية في الكنيسة المارونيّة، حافظاً لتراثها، ومجدداً لليتورجيتها، ومؤسساً لهويتها الحديثة.
إن الكنيسة المارونية حين تقرأ سيرة قديسيها، لا تفعل ذلك لتذكرهم فحسب، بل لتستدعي حضورهم الحيّ، وتعيد تقديمهم كشفعاء وقدوة. ففي قداس اليوم، نرفع صلاتنا شاكرين الله على نعمة الدويهي، وملتمسين شفاعته من أجل كنيسة لبنان، وشعبنا المؤمن، ومؤسساتنا الروحية، ليبقى نورُ الايمان متقدّاً وسط ظلمات هذا الزمان. 

 

5. كيف نذكر الدويهي، ولا نتذكّر رسالته الوطنية؟ كيف نحتفل به وننسى أنه كان رجل دولة بامتياز، يكتب إلى قناصل الدول، ويرعى شعبه في زمن الفقر والاحتلال؟

 

لقد كان صوتاً حراً في وجه القهر، وراعياً جسوراً في زمن الانقسامات. كان يرى أن البطريركية المارونية ليست فقط مسؤولية كنسية، بل رسالة وطنية، وصوتاً للكرامة، وجسراً للوحدة.
من هذا الوادي المقدس الذي أنجب الدويهي، نرفع صلاتنا ليولد في لبنان اليوم رجال يعلون فوق الانقسامات، يحمون لبنان من شهوة السلطة، من جفاف الضمير، رجال يحكمون بالحقّ لا بالمصلحة، يقدمون المصلحة العامة، لا مصالحهم.

 

6.في ضوء كلمة الربّ في إنجيل اليوم: “من أراد أن يتبعني، فليزهد بنفسه، ويحمل صليبه ويتبعني” (متى 16: 24)، نتساءل “ألا يحتاج لبنان اليوم قادة يزهدون بذواتهم، ويتبعون صوت الضمير، صوت الله في أعماق نفوسهم؟ ألا نحتاج إلى زعماء وسياسيّين لا يبحثون عن النفوذ بل عن النهوض؟ ألا نحتاج إلى رجال دولة، لا رجال صفقات؟ إلى رجال فكر لا رجال مصالح؟ إلى رجال ضمير، لا أدوات تابعة؟”. 

 

نحن نحتاج اليوم عودة روحيّة ووطنيّة، إلى بناء دولة تصان فيها الكرامة، ويعلوها الدستور، ويكون فيها المسؤول راعياً لا متسلّطاً، شريكاً لا خصماً. هذا ما شهده التاريخ في وجه الدويهي، وما يجب أن نشهده اليوم في وجه كلّ مسؤول، في أي موقع كان.
7. لقد حدّد لنا الطوباويّ البطريرك أسطفان الدويهي هوّيتنا وسالتنا. الهويّة هي فسيفساء الأديان والطوائف، أي الوحدة في التنوّع. أمّا الرسالة فهي العمل معاً من أجل إكمال قيام الدولة المدنيّة التي تفصل بين الدين والدولة، وتبقي قائمة العلاقة بين الدولة وعقيدة كلّ دين، وتجعل أساسها العدالة والمساواة وإشراك مختلف المواطنين في مؤسّسات الدولة. وعلى هذا الأساس تعود الثقة بين جميع اللبنانيّين، وتكون المواطنة حجر الزاوية. فبدون هذه الثقة تبقى الريبة هي الأساس، ويقود الشكّ إلى أن يحتمي المواطنون بالطائفة لا بالدولة. أمّا تنقية الذاكرة فتبقى المدخل الأساس إلى الثقة بين المواطنين. 

 

8. فلنصلّ، أيّها الإخوة والأخوات، كي يشرق فجر جديد على لبنان، وعلى كنيستنا، وعلى عائلاتنا. نصلّي من أجل شرقنا الجريح، من فلسطين إلى سوريا والعراق، ومن أجل السلام في الأرض التي أحبّها الدويهي وكرّس حياته لأجلها. ونرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، إلى الأبد، آمين. 
*     *     *