البنوك المركزية في الخليج تعكس استراتيجية “الانتظار والترقب” المتبعة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي

البنوك المركزية في الخليج تعكس استراتيجية “الانتظار والترقب” المتبعة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي

أبقى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على سياسة الترقب، رغم ارتفاع التضخم وضغوط البيت الأبيض. في الخلفية يبدو الاقتصاد قوياً على الورق، لكن الحرب التجارية التي يقودها ترامب تُعيد رسم حدود اللعبة النقدية… ومجلس الفيدرالي منقسم للمرة الأولى منذ عقود.

قرار متوقع… لكن خلفه ضجيج غير مسبوق
لم يكن مفاجئاً أن يُبقي مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على أسعار الفائدة من دون تغيير عند نطاق 4.25%–4.50%؛ فالمتداولون سعّروا هذا السيناريو بنسبة 96% وفقاً لـ FactSet. لكن البيان الصادر عن لجنة السوق المفتوحة (FOMC) حمل بين سطوره إشارات سياسية واقتصادية لا تقلّ أهمية عن القرار نفسه.

 

فالاقتصاد الأميركي ينمو بوتيرة 3% في الربع الثاني من العام، والبطالة لا تزال عند 4.1%، والتضخم وصل إلى 2.7% في حزيران/يونيو، أي أعلى من المستهدف البالغ 2%. لكن خلف هذه الأرقام، بدأت ملامح انقسام داخل أروقة الفيدرالي… وظهرت علامات غير معتادة على التوتر السياسي.

 

انقسام نادر داخل الفيدرالي… وأخطار على الاستقلالية
للمرة الأولى منذ عام 1993، يصوّت عضوان من مجلس المحافظين – ميشيل بومان وكريستوفر والر – لمصلحة خفض الفائدة، مخالفَين التوجه العام للجنة. هذا الانقسام غير المعتاد يعكس تحولات عميقة في قراءة التهديدات الاقتصادية، لكنه يثير أيضاً تساؤلات حول استقلالية المجلس في مواجهة ضغوط البيت الأبيض.

 

الرئيس ترامب، الذي صعّد أخيراً من وتيرة فرض التعريفات الجمركية، بما في ذلك 25% على الواردات من الهند، طالب مراراً بخفض الفائدة، متذرّعاً بضعف التضخم. لكن رئيس الفيدرالي جيروم باول رد بوضوح في المؤتمر الصحافي: “الاقتصاد في حالة جيدة… ولسنا في وضع يتطلب خفضاً الآن”.

 

 

 

الفيدرالي الأميركي (وكالات)

 

 

الخليج يثبت الفائدة… لكنه يراقب عن كثب
في رد سريع على قرار الفيدرالي، قررت بنوك مركزية خليجية بارزة الإبقاء على أسعار الفائدة من دون تغيير:
-الإمارات: أبقى مصرف الإمارات المركزي سعر الأساس على تسهيلات الإيداع لليلة واحدة عند 4.40٪، مع تثبيت سعر السيولة القصيرة الأجل عند +50 نقطة أساس فوق ذلك المستوى.
-قطر: حافظ المصرف المركزي القطري على سعر فائدة الإيداع عند 4.60٪، وسعر الإقراض عند 5.10٪، وسعر إعادة الشراء (الريبو) عند 4.85٪.
-البحرين: ثبت البنك المركزي البحريني سعر فائدة ودائع الليلة الواحدة عند 5.00٪، مؤكدًا أن هذا القرار هدفه الحفاظ على الاستقرار المالي والنقدي.

 

لماذا التثبيت؟
ربط العملات بالدولار يجعل المصارف المركزية في الإمارات، قطر، البحرين والسعودية تتحرّك تلقائيًا بعد كل قرار للفيدرالي. وبالتالي أبقت جميعها أسعار الفائدة كما هي بعد أن ثبّت الاحتياطي الفيدرالي نطاقه عند ‎4.25 %–4.50 %.

 

-خطر التضخم المستورد: الرسوم الأميركية الجديدة (25 % على واردات الهند مثلًا) تعني أن أي خفض متسرّع للفائدة قد يُعيد إشعال الأسعار في اقتصاداتٍ تعتمد كثيراً على الواردات الغذائية والاستهلاكية المسعَّرة بالدولار.
-صلابة الأوضاع المالية: أسعار النفط قرب ‎70 $ للبرميل، وفوائض الحساب الجاري المريحة، تمنح البنوك المركزية الخليجية قدرة على تحمّل معدلات مرتفعة موقتاً من دون خنق الائتمان تماماً.

 

ما بين خطر التضخم وصدمة التجارة
في بيانه، أشار الفيدرالي إلى أن “النشاط الاقتصادي تباطأ قليلاً في النصف الأول من العام، لكن سوق العمل لا تزال قوية، والتضخم لا يزال مرتفعاً نسبياً”. هذا الموقف يعكس معضلة السياسة النقدية الحالية: الاقتصاد لا يعاني بما يكفي لتبرير التيسير، لكنه أيضاً لا يخلو من الاخطار.

 

القلق الأكبر يتمثل بأثر تعريفات ترامب الجديدة، التي يرى باول أنها قد تتسبب في “ارتفاع أسعار لمرة واحدة”، لكنه حذر في الوقت نفسه: “سنضمن ألا تتحول هذه الزيادة الموقتة إلى تضخم دائم”.

 

الأسواق تترقب أيلول/سبتمبر: موعد الحسم؟
رغم التثبيت الحالي، تشير توقعات الأسواق إلى احتمال بنسبة 63% لخفض الفائدة في اجتماع الفيدرالي المقبل يومي 16–17أيلول. القرار حينها سيتوقف على صدور بيانات وظيفية وتضخمية جديدة، تشمل تقريري وظائف وبيانات التضخم لشهري يوليو وأغسطس.
لكن الاتجاهات الحالية لا تقدم صورة واضحة:
-التضخم أعلى من المستهدف.
-النمو أقوى من المتوقع.
-في المقابل، بعض المؤشرات مثل استثمارات الشركات خارج قطاع التكنولوجيا بدأت تتباطأ، والأسواق العالمية تشهد تقلّبات متزايدة.
هل ينتظر باول مزيداً من “الإشارات المتّسقة” قبل التحرك أم أن أيّ تصعيد جديد في حرب الرسوم الجمركية سيدفع الفيدرالي إلى الثبات على موقفه؟

 

ما الذي تقرأه الأسواق في هذه اللحظة؟
تثبيت الفائدة لا يعني انتهاء النقاش، بل العكس. نحن أمام مرحلة توقف نقدي تشبه الهدوء الذي يسبق القرارات الكبيرة. وما بين ترقب البيانات المقبلة، وتزايد الأصوات الداعية إلى التيسير، وصوت الرئيس الأميركي الذي لا يهدأ… يبدو أن اجتماع أيلول سيكون أحد أكثر الاجتماعات حساسية في عهد جيروم باول. ولا يزال الفيدرالي يلتزم فكرة “التفويض المزدوج” بالحفاظ على عدم ارتفاع الأسعار وعدم انهيار أسواق العمل. فالسيناريو الأرجح أن الفيدرالي قد يفقد بوصلة أسواق العمل التي قد تدفعه إلى خفض الفائدة؛ ليس وصول التضخم إلى هدفه!

 

** رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي