محادثة مع أنطوان الدويهي عن “الشتاء الكبير”… رواية عن تجربة الحياة قبل خوضها

حاورته ليليان يمّين
بعد سنوات من الصمت الأدبي إثر صدور روايته ” آخر الأراضي” (2017)، يطلّ الشاعر والروائي أنطوان الدّويهي بعمله الأدبي التاسع الجديد، رواية “الشتاء الكبير”، الصادرة في بيروت عن الناشرين، الدار العربية ودار المراد.
في لقاء لنا معه في إهدن، نلقي الضوء على “الشتاء الكبير”، كما على مجمل عالم الدّويهي، الغني والفريد في الآداب العربية المعاصرة، بخصائصه الأدبية والجمالية، ووحدة مساره ، واستناده الكامل إلى الحياة الداخلية.
-غريبة هذه الرواية ومثيرة للدهشة. لم أقرأ شيئاً مماثلاً من قبل. يذكر الراوي في مطلعها أنه في السابعة عشرة من عمره، كان يكتب نصّين عن حالات تسكنه، أحدهما عن “الوله” والآخر عن “العنف والموت”، في “حيّ موريا القديم”، حيث عاش حداثته وصباه الأول. وها هو يعود إليهما بعد انقضاء أكثر من نصف قرن، فيدمجهما في نصّ روائي واحد يكمله، ويطلق عليه عنوان “الشتاء الكبير”. هل هذا حقيقة واقعة أم صيغة روائية متخيلة؟
-أودّ أن أكون دقيقاً واضحاً، لأني أخشى أن يخفى على البعض إدراك ماهيّة هذه الرواية. صحيح أنها، بمعنى ما، غريبة ومثيرة للدهشة. لكنّها حقيقة واقعة، وليست صيغة روائية متخيّلة قطّ. يعلم متابعو أعمالي الأدبية أن كتاباتي مستمدّة كلها من “يوميات الحياة الداخلية” لديّ، التي دأبتُ على كتابتها منذ الرابعة عشرة من عمري حتى الآن. ليست هي يوميات الأحداث، ولا يتم تدوينها كل يوم. هي سجلّ الحالات والمشاعر والهواجس والأحلام والرؤى، خصوصاً تلك اللحظات التي أصفها بالمضيئة أو المتوهّجة. ورواية “الشتاء الكبير” مستندة هي أيضاً إلى تلك اليوميات.
غلاف رواية
لكن ما يميّز هذه الرواية هو أنها ترتكز على نصوص جد قديمة في الزمان، قبل أكثر من نصف قرن، حين كان كاتبها في سن السابعة عشرة. وهي الوحيدة بين أعمالي التي تحدث في المكان الأول، المغلق، قبل التعرّف إلى العالم الخارجي، وقبل الرحيل إلى العاصمة ومن ثمّ إلى أوروبا. ذلك أن أعمالي الأدبية الأخرى تجري على ضفتي العالمين، العالم الأول وعالم الهجرة المتعدّد الشاسع. فطالما ذكرت أن جغرافيتي الأدبية والجمالية تمتدّ من قمة الحصن في جبل المكمل، المشرف على المتوسّط شرقاً، إلى مرتفع الملاك ميخائيل المطلّ على المحيط الأطلسي، عند بلاد النورمان والبروتون، غرباً. وبينهما قدر لا حصر له من الأمكنة والمشاهد المختارة، التي أضحت من مكوّنات الذات.
أما “الشتاء الكبير” فهي رواية المكان الأول المغلق. والراوي يعود حقاً إلى نصين كان يكتبهما آنذاك، أحدهما عن “الوله”، والآخر عن “العنف والموت”، في حيّ موريا القديم، حيث أمضى حداثته وصباه الأول، وعاد في هذه الرواية ليكملهما بعد هذه الفترة الطويلة جداً من الزمن.
– تقول في مستهل هذا العمل إن كل ما عشته بعد ذلك وما عرفته على مرّ السنين “من مشاهد وأمكنة ووجوه وأنفس وحيوات لا تحصى، في جغرافية حياتي الفسيحة على ضفتي العالمين، وكلّ ما اكتشفته من ثقافات وجماليات وانماط عيش، وما أدركته من معارف وعلوم، وكلّ ما انتابني من خيالات ورؤى، لم يضف الكثير إلى ما كان يختلج في حنايا ذلك الفتى اليافع الصامت”… كيف تفسّر ذلك؟
– تلك هي حقيقة شعوري. كل تجارب حياتي ومشاهداتها ومعارفها لم يشكّل إضافة جوهرية إلى ما كان يعرفه ويحسّ به ويعيشه ذلك الفتى الناحل، الرهيف، المجروح الروح، المقيم في ذاته، الذي لم يكتشف الأسفار ولا الأمصار، ولا وصال الأجساد، ولا ما يستحقّ ذكره خارج موريا القديمة ومحيطها. ويذكر الراوي بهذا الشأن أن ذلك الفتى “الذي كانت تنعكس عليه عميقاً أشياء الحياة قبل عيشها، هو الأكثر تجسيداً لذاتي الأعمق، والأكثر تعبيراً عنها”. ويضيف: ” لو كان لي الاحتفاظ بصورة واحدة عن نفسي طوال عمري لاخترت صورتَه”.
إنها رواية عيش الحياة قبل عيشها. سرّ عذابات الصبا الأول المبرّحة والولوج عبرها إلى أعماق الذات وإلى أسرار النفس البشرية وإلى غوامض الزمن والكون. هل تمّ ذلك من طريق الحدس؟ من طرق أخرى لا أعرفها؟ لست أدري. كل ما أعرفه أن تلك السنوات الأربع التي عاشها فتى السابعة عشرة في صباه الأول كانت مفعمة بآلام الروح، وبتوهجّ الحياة الداخلية على نحو يصعب وصفه، قادت صاحبها إلى الأعماق.
كنت أعتقد أن الأشخاص الذين أحبهم وأشعر أنهم يشبهونني، لا بدّ أنهم عاشوا عذابات الصبا الأول المبرّحة. لكني اكتشفت مع تجارب الحياة أن هذا غير صحيح. أذكر بهئا الشأن في أحد كتبي، “حديقة الفجر”، أو “رتبة الغياب”، كيف كنت أظنّ أن صديقتي آنّا عرفتْ مثلي عذابات الصبا الأول المضنية، وكم فوجئتُ حين أخبرتني أن صباها الأول هو المرحلة الأكثر سعادة في حياتها، حيث أمضته وسط الطبيعة قبل أن تنتقل إلى باريس.
– تذكر أيضاً في مستهل الرواية أمراً آخر لا بدّ من التوقّف عنده والاستفسار عنه. تقول: ” كما أودّ الإشارة إلى أنّي لم أغيّر شيئاً في لغته، التي بقيت هي عينها لغتي على الدوام. هي لغة نفسي، فأنّى لي تغييرها؟”…هل بقيت لغة فتى السابعة عشرة هي لغتك طوال حياتك الأدبية؟
– أجل، هي لغة نفسي وليس لي لغة سواها. أود التوقّف قليلاً هنا عند مسألة اللغة. ثمة من يعتقد أنه مع كل عمل أدبي جديد، من المستحسن أن “يغيّر” الكاتب و”يجدّد” لغته. أنا جدّ بعيد عن هذا الاعتقاد وعلى طرف نقيض معه. لكل أديب حقيقي لغته الواحدة، التي هي لغة ذاته، وليس من أدب كبير خارج اللغة الواحدة، لغة نفس الأديب التي لا تشبه سواها. هل يمكننا تخيّل أعمال دوستويفسكي وتولستوي وبروست وبلزاك وفلوبير وجويس وولف وموبّاسان وستاندال، والعشرات سواهم، من دون لغة كل منهم الواحدة، التي هي لغة نفسه؟
تكتمل لغة الأديب في عمر معين، ولا تعود تتغيّر. هذا العمر، عمر اكتمال اللغة، يختلف من كاتب لأخر. كان اكتمال اللغة جد مبكر عند ريمبو أو لوتريامون، على سبيل المثال. وثمة أعمار مختلفة لاكتمال اللغة عند كتاب آخرين، يمكن التحرّي عنها.
الروائي أنطوان الدويهي (النهار).
في ما يخصّني اكتملت لغتي قبل سن العشرين. لكن نظرتي إلى لغتي كانت مشوبة برغبة الوصول إلى ما كنت أسمّيه “الكتابة المطلقة”. بقيت أكتب على مدى ثلث قرن من دون أن أنشر شيئاً بإسمي. كنت أعتبر كتاباتي مجرّد مسودات للوصول إلى”الكتابة المطلقة”. تخلّصت من هذا الوهم عشيىة نشري “كتاب الحالة” عام 1993. قلت في نفسي بعد تردد عميق: ” هذه هي لغتك وليس لك لغة سواها”. كنت نشرت عام 1968، أي قبل “كتاب الحالة” ب25 عاماً، قصائد لي في مجلة “الوعي اللبناني”، كانت مكتوبة قبل ذلك أيضاً، وقّعتها آنذاك باسم مستعار، من ضمن هاجس الوصول إلى “الكتابة المطلقة”. كذلك لم أوقّع افتتاحية “الوعي اللبناني”، التي كتبتها بعنوان “الغضب وأشياء أخرى”، حيث كنت أشرف على تحرير تلك المجلة. بعد ربع قرن، أدخلت قصائد “هواجس النهارالأربعة” بعناوينها الأصلية، ضمن نصوص “كتاب الحالة”، كأنها مكتوبة قبيل صدوره. واليوم، بعد عشرات السنين، أتبنى إفتتاحية “الغضب والأشياء الأخرى” بالكامل، لغةً ومضموناً.
– إذا كان “الشتاء الكبير” هو كتاب المكان الأول، فلماذا لم تكن هي روايتك الأولى، ولماذا استفقت عليها الآن بعد مرور هذا الزمن؟
– كانت هذه الرواية في فكري على الدوام. في أيّ حال، ثمّة ملامح من زمن الصبا الأول في كل أعمالي الأدبية. الزمن لديَّ دائريّ وليس امتداديّاً، والأشياء المتباعدة في الزمان جد متقاربة في نفسي. وأبعد من الصبا الأول، أنا وثيق الصلة بطفولتي. الطفولة هي الكنز وهي الينبوع الذي لا ينضب. يجب الحرص دوماً على عدم موت الطفولة داخل الذات، لأن موت الطفولة هو الموت الأول، المنبئ بالموت الثاني. استغرب كثيراً من يقول إن عالمه الأدبي أو الفني، لا علاقة له بطفولته. كيف يكون ذلك؟ سمعت مرّة أحد الكتاب العرب المعاصرين المشهورين يقول في حديث معه أن أعماله الأدبية لا علاقة لها بطفولته وحداثته، اللتين أصبحتا بعيدتين جداً في الزمان، ولا علاقة لهما بعالمه. كيف يكون ذلك؟
– كيف تنظر إلى مضمون هذه الرواية؟
– أولي في نفسي وفي ذاكرتي، التي أسمّيها “شمس الروح”، أهمية كبرى لزمن هذه الرواية، ولمكانها الأول المغلق، حيّ موريا القديم، الذي يسكن أحلامي الليلية على الدوام. تتميَز هذه الرواية بكونها مسرحاً لاضطرابين كبيرين متزامنين، وصلا إلى ذروتهما، اضطراب الصبا الأول، واضطراب الجماعة الغارقة في عنفها الداخلي. الاضطرابان الماسويّان متزامنان، لكن لا علاقة وثيقة لأحدهما بالآخر. مساراهما منفصلان. كان اضطراب الصبا الأول سيحدث في أي حال أينما كنت موجوداً.
ثمة كتابات كثيرة مدوّنة عن الاضطرابين في حينه، في “يوميات الحياة الداخلية”. وهي مدوّنة أثناء عيش حالات الاضطرابين، أو بعده بقليل. وشاب السابعة عشرة توغّل بعيداً جداً، وعميقاً جداً، في رسم تلك الحالات. لذلك كنت أنظر باستمرار الى تلك المدوّنات الكثيرة ككنز فريد، لا مثيل له. فهي تحمل مضامين أهم حدثين مؤتمن أنا عليهما، ولا احد سواي يستطيع الشهادة لهما، لأنه لم يعد لهما من وجود في أي وعي وفي أية ذاكرة: اضطراب الصبا الأول واضطراب الجماعة المأسويّان، الواصلان إلى ذروتهما في الزمان والمكان نفسهما. وما تم استعماله في هذه الرواية، هو اختصار لتلك المدوّنات، التي أطمح إلى نشرها يوماً، كاملةً كما هي، خارج إي صيغة روائية.
– أودّ سؤالك هنا: هذه الأمكنة التي تدور فيها أحداث الرواية او تشير إليها، موريا، جيناتا، طينال، نهر الريحان، الوادي الكبير، الجبل الأبيض، قمة الحصن، قمة سقف الشرق… معروفة تماماً في أوصافها، كذلك العديد من الأحداث والمعطيات، معروف إلى ماذا يشير. ما هو جانب الواقع، وما هو جانب المتخيّل في “الشتاء الكبير”؟
– سؤال أساسي بالنسبة لهذه الرواية. ليس من أشياء متخيلة حقاً. هو الواقع. لكنه الواقع الذاتي، البعيد تماماً عن الواقع الموضوعي، الخارجي، والتأريخي. واقعان مختلفان بعمق أحدهما عن الآخر. ولا بدّ من إيضاح ذلك للولوج إلى حقيقة هذا العمل.
يكمن مفتاح فهم “الشتاء الكبير” في ما يذكره الراوي عن المكان الذي يقيم فيه، والذي يرى منه إلى ما يجري. يقول بهذا الشأن: ” وثيق الصلة في دخائلي بأهل موريا القديمة، لكنّي مقيم في مكان ناءٍ عنهم، بعيدٍ عن عالمهم، أعجب كيف لا يدركون ذلك وهم ينظرون إليّ “. ويضيف في مكانٍ آخر: “أنا في عالمهم وفي عالمٍ آخر جد بعيد منهم، في آنٍ معاً. وكانت هذه حالي على الدوام منذ قدومي إلى “الحيّ القديم” طفلاً”. ويوضح ذلك أكثر في مكانٍ آخر قائلاً: ” مقيم عميقاً طوال أيامي ولياليَّ في مكان آخر، قصّي، بالغ الاختلاف، في أرجاء نفسي. أعجب كيف لا يرى الناظر إليّ، وراء سحنتي الهادئة وظلّي الناحل، هذا المدى الشاسع الذي انا فيه. وأنا لم أختره ولم أسعَ إليه، ولا علاقة له برغبتي وإرادتي. كأنه مكان إقامتي منذ ما قبل ولادتي بكثير”.
حالات اضطراب الصبا الأول وعذاباته وهواجسه، وحالات اضطراب الجماعة وفصول عنفها، لا تدور في هذه الرواية على أرض الواقع الخارجي، وهذا إيضاح بالغ الأهمية، بل في ذلك المدى الداخلي الشاسع، القصي، البالغ الاختلاف، في أرجاء نفس الراوي، ابن السابعة عشرة. هذا هو الواقع الذاتي، البعيد عن الواقع الخارجي، الذي ترتسم فيه حالات الرواية في موريا “مدينة الشتاء”، وفي جيناتا “مدينة الصيف”.
فكل سعي إلى إخراج الرواية من عالمها الذاتي النائي، إلى العالم الخارجي، الموضوعي، التأريخي، يشوّه مضمونها الحقيقي، ويحول دون إدراك جوهرها.
وأهمية تلك المدوّنات الكثيرة التي خطّها فتى السابعة عشرة أنها الشهادة الوحيدة الباقية عن تلك المرحلة. شهادة ذاتية فريدة، ووسيلة وحيدة أخيرة لإنقاذ المرحلة من النسيان النهائي، الذي هو العدم.
-ذكرت أخيراً أنك تعمل على كتاب شعري سيصدر في الأشهر القادمة، سيكون عنوانه على الأرجح “كتاب القمر الرائف”. هل هو استمرار ل “كتاب الحالة”، أم هو شيء آخر؟
– أعمل على كتاب شعري سيصدر في الأشهر القليلة القادمة. لا أعلم تماماً إذا كان سيحمل عنوان “كتاب القمر الرائف”. هو ينتمي إلى لغتي الشعرية التي نجدها في “هواجس النهار الأربعة”، كما في “كتاب الحالة” ، كما في مقاطع عديدة متناثرة في أعمالي السردية والروائية. أودّ الإشارة هنا إلى أن الحالة الشعرية هي سرّ الإبداع الأدبي وجوهره. ثمّة، في عالم الأدب، ما هو مصنّف ” شعراً ” يخلو تماماً من الحالة الشعرية، وثمة نصوص نثرية تسكنها الحالة الشعرية. ومع أنه تمّ تخطّي المفهوم القديم الذي يعتبر النظم شعراً، فالتقصي عن الحالة الشعرية في الآداب الحديثة والمعاصرة ما زال يكتنفه الغموض والتعثر.