بعلبك تجمع التراث والعظمة | النهار

بعلبك تجمع التراث والعظمة | النهار

يهبّ عليك النسيم خفيفاً كهمس شفاهٍ تتلو صلاةً. لا تُشبه بعلبك الأرض، ولا هي السماء. شيءٌ ثالثٌ بينهما؛ مزيجٌ من زفير الآلهة وغبار أزمنة تعاقبت عليها. يخلع الشفقُ على المعابدِ عباءةً من نحاسٍ ناعمٍ، وشمس الأصيل تُرسل تنهّداتها الأخيرة، وتسقط فوق الأعمدة الجبّارة بثقل الأجساد المتعبة.

هنا، تحفظ الأحجار أسماء من مرّوا، وتحرس الظلال صلواتهم. ولمّا يأتي الغسق وتتيبّس الألوان، تتّشح القلعة بالرماديّ وتتأهّب للّيل. رهبةٌ ثقيلةٌ، كحُجُبٍ مخمليّةٍ تُسدَلُ فوق هيكلٍ مقدّسٍ. والزمنُ يتمهّلُ بنا، ويرفعُنا حافياً.

 

بعلبك ليلة افتتاح المهرجانات. (أ ف ب)

 

لا تُخيفكَ الرهبةُ، بل تُذيبُ بعضاً من منكَ، شيئاً من روحِكَ، في كينونةِ بعلبك. وحين تضربُ أضواءُ المهرجانِ القلعةَ، تتوهّجُ توهّجَ أمٍّ عادَ ابنها حيّاً. كلُّ تفصيلٍ هنا وُجدَ ليُدهِش؛ وللحجارةُ ذاكرةٌ، ولها أعينٌ تُفتّش فيك عن أثرٍ للإيمان. والهواءُ يحملُ شيئاً من البخور، وشيئاً من قصص العجائز وترانيم الآلهة وأضغاث الأحلام الليليّة. والليل طويل، ولا تريدُ له نهايةً.

صوت امرأة على حافّة الجرح
ليس سهلاً أن تُعاد أوبرا “كارمن” إلى الحياة في قلب بعلبك الشاهدة على قرون من الضوء والمجد والحرب. من بين شخصيات الأوبرا الأكثر إثارة وجاذبية في تاريخ الفن الغنائي، تبرز “كارمن”، بطلتُ أوبرا جورج بيزي، كامرأة تتجاوز زمنها، بحضورها الجامح وصوتها الذي يقطر إغواءً وتمرّداً. هي امرأة التي لا تنتمي لأحد؛ تحمل في صوتها فتنة العالم وفوضاه.

 

كارمن ودون جوزيه في بعلبك. (أ ف ب)

كارمن ودون جوزيه في بعلبك. (أ ف ب)

 

في أعقاب الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي طالت محيط القلعة، يأتي عرض “كارمن” كفعل مقاومةٍ بالمعنى الجمالي العميق. أن تصعد المرأة اللعوب بتجلّياتها وعواصفها إلى المسرح الآن، بعد شتاء مشحون بالألم واللايقين، يشبه عناء امرأة على حافة الجرح، عصيّة على الانكسار.
فكارمن، التي صاغها بيزي عن رائعة بروسبير ميريميه الأدبيّة، ليست مجرّد غجرية لعوب، بل امرأة – زلزال، تحمل في نظرتها احتقاراً لكلّ قيد، وضحكتها تضرب مواعيد مع الخطر.

هي ليست ضحيّة، بل سيّدة قدرها. تطلب وفاءً ولا تمنحه. تثير الشغف وتنسحب، تغوي لتختبر الحرية. وحين تقع في الحب، تحترق تماماً. فكيف تتلقّى بعلبك – المدينة الحجر، المدينة الجرح – هذه الشخصية الآن؟

 

كارمن المرأة الخطيرة. (أ ف ب)

كارمن المرأة الخطيرة. (أ ف ب)

 

تتلقّاها كمرآة، فيها شيء منها، من قسوتها وعنفوانها، من زهوها وندوبها. وفي كارمن شيء من نساء هذه الأرض: الجميلات المتروكات، العاشقات المخذولات، والعارفات أنّ لا خلاص إلّا بالرقص على الحافة.

في هذا الجوّ، جاء عرض أوبرا “كارمن” في صيف بعلبك استعارةً مسرحيّةً لوطن يرفض الترويض، وطن مثخن لا يرضى بالرثاء.

 

الخطيبة المكسورة. (أ ف ب)

الخطيبة المكسورة. (أ ف ب)

 

لا دويّ غارات يعكّر صفو بعلبك وهيبتها، وها هي تستقبل أنغام أوركسترا متناغمة بقيادة الأب توفيق معتوق، وغواية الفلامنكو، ونداء “الهابانيرا”. صوت كارمن يتحدّى الخوف، ويربّت على ذاكرة المثقلة بالجراح. وحبّها “طفل بوهيمي، وطائر لا يمكن ترويضه”.

لم نذهب لنسمع “كارمن”، بل لنشاهد ما تبقّى فينا منها. تقاطرنا إليها لنعرف إن كانت الحرية، بعد كلّ هذا الحصار، ما زالت ممكنة. وإن كانت المرأة التي رفضت أن تُملَك، ما زالت قادرة على الوقوف، والغناء، والرحيل متى شاءت. و”كارمن” أوبرا طويلة تشهد أننا، في وجه الحرب، ما زلنا نملك شيئاً من السحر، ومن التمرّد، ومن الحياة.