إنه مع زعيم الشياطين، يقوم بطرد الشياطين

الاب ايلي قنبر
1.”لَيسَ أَحَدٌ يَتَجَنَّدُ فَيَرتَبِكَ بِهُمومِ ٱلحَياة”
نقَع أحيانًا على أشخاصٍ يرتبكون لأدنى سببٍ أو أمام أصغر مشكلة. أو بالحريّ يتحجَّجون بها للتهرُّب من مسؤوليّاتهم في الحياة. لا يَحتَمِلون ٱلمَشَقّاتِ ليس لأنّهم ليسوا كُفاةَ وحسب بل لأنّهم جهلَة وغير أُمناء لِما أُودِعوا. لا يُجاهِدُون الجهادَ الحسَن، فَلا يَنالُون ٱلإِكليلَ “شَرعِيًّا”.
تصرَّف زياد بهَديِ قَولَة بولس الطرسوسيّ: “لَيسَ أَحَدٌ يَتَجَنَّدُ فَيَرتَبِكَ بِهُمومِ ٱلحَياة”. لقد تحمَّل زياد مسؤوليّاته في مُناصَرة قضايا الإنسان فاستحقّ لقَب “المُناضِل الأُمَميّ”. وتحمَّل المشقّات أيضًا إذ أّنه كان أمينًا لِما أُودِع من مواهب وطاقات ولم يتراجَع عن الشهادة للحقّ والدفاع عن المظلومين في كلّ الأرض. هذا، “وجاهَد (زياد) الجهادَ الحسَن”[ رسالة القدّيس بولس الثانية إلى تيموتاوس 10-1:2]. ذلك أنّه “َلا بُدَّ لِلحارِثِ ٱلَّذي يَتعَبُ أَن يَنالَ ٱلأَثمارَ أَوَّلاً”[ المرجع السابق] ولو أنّه لم يجْنِ الثمار المرجُوَّة والمُستَحقَّة.
2. ” إِنَّهُ بِرَئيسِ ٱلشَّياطينِ يُخرِجُ ٱلشَّياطين “
في أحد الأيّام تبِع اعميَان يسوع وهُما يصرخان عالِيًا:”إرحمنا يا ابنَ داوُد”، ثُمَّ دخلَا البيت وراءه. وكان تواصلٌ معهما:” هَل تُؤمِنانِ أَنّي أَقدِرُ أَن أَفعَلَ ذَلِك؟” قالا لَهُ: “نَعَم يا سَيِّد[ أي “يا ربّ”، كما يُدعى الإلَه]”. فاستَجاب: “كَإيمانِكُما فَليَكُن لَكُما”. حينَئِذٍ لَمَسَ أَعيُنَهُما، فَٱنفَتَحَت. في الطريق صرخَا:”يا ابنَ داوُد”، وحين لمس أعيُتهما فأَبصَرا، أعلَناه “سيِّدًا وربًّا”. لم يكُن يسوع مَعنيًّا بصرخة “إرحمنا يا بنَ داود”، هذه التسميّة المسيحانيّة العُنصُريّة “لمملكةٍ يهوديّة مستفلّة” مُغايِرة لِملكوت الآب ومُتَناقِضة معه. لذلك نهاهُما عن إشهار[ متّى 17: 9؛ و 10: 26-27؛ و 16: 20؛ و 26: 29] المعجزة منعًا لاستغلالها في الاتّجاه العنصريّ، بل العمل داخليًّا على الشفاء الحميم غير النابع من تحرُّرٍ سياسيّ. والنَهْيُ كان منعًا لتصلُّب الفرّيسيّين المتحكِّمين بعالم الدِّين والبشر التابعين. فأمام هؤلاء الذين تتحكّم بهم الكراهيّة والعداوة ليسوع الفاضِح رياءهم وزَيفهم وتملُّقهم واستغلالهم واستعبادهم للناس، لا يليق ولا يستقيم إلَّا الصمت. فَيسوع يمنح راحةً حقّة ومُستَحقَّة وسلامًا يشفيان … المعلِّم-“الطريق”، طريق الحقّ والسلام والحياة:”تعالوا إليَّ يا جميعَ المُتعَبين والمُثَقَّلين وأنا أُريحُكم”(متّى11: 28)، وهذا ما تمَّمه مع الأخرَس (متّى 35-27:9). “ما هي الراحة التي يُوفِّرها لنا يسوع؟ أيُّ راحةٍ هو سيّدُها؟ أيُّ سلامٍ هو صانعُه؟ وأيُّ حقيقة يكشفُها ويُعلنُها؟” فهم ما تقدَّم يتطلّب وقتًا وتأمُّلًا داخليًّا لاستيعابه وتَثميره وتَطويره وتَقديمه للآخَرين راحةً وسلامًا يسوعيَّين. الأمر الذي حاول زياد عيشه بحسب رؤيته وأُسلوب حياته الفَذّ، وتحميله في مسيرته الثقافيّة والفنِّيَّة والإنسانيّة دون إبطاء، نظرًا لإحساسه المُرهَف بمُعاناة سواه ورغبته القويّة في خدمته وتحريره. متحَدَا بِبَعضِهم إلى مُطالَبة زياد – حتّى بعد “رُقاده”- بِما لم يقوموا به في حياتهم قبلًا و”هُنا والآن”، أو رأوا الأمور من زاوية أُخرى وكانت لهُم مُمارسةٍ مختلفة. هُؤلاء رأَوا أنّ “ما أضاعه من عُمره، هو من عُمر الوطن، من عُمر ثقافتنا و«جهادنا» في وَجه الظُلم والفساد والانحراف”[ الشيخ ماهر حمّود، معجزة زياد الرحبانيّ، الأخبار، 29 تمّوز 2025]. لكأنّهم يجِدون “إِنَّهُ بِرَئيسِ ٱلشَّياطينِ يُخرِجُ ٱلشَّياطين”، أي يُفكِّر كحُرٍّ وينتقد كثاقِبِ رؤيةٍ ويعمل على تحرير المُستَضعَفين بأقصى ما لدَيه من طاقة.
3. زياد “يُشبِهُنا في كلّ شيء”
سؤال مُتَشعِّب يُطرَح :
هل أراد زياد إضاعة أيِّ شيءٍ يُمكن أن يفيد منه الناس كما سجَّل قلم الشيخ ماهر حمّود[ مقالته أعلاه في جريدة الأخبار]؟ هل ناضَل زياد في سبيل “المعتَّر بكلّ الأرض (اللّي) هوِّي ذاتو”؟
هل عمِل لأجل قضايا الناس؟
هل جاهَد، بطرُقٍ عدّة، في سبيل القضيّة الفلسطينيّة؟
هل سانَد زياد أهل الجنوب بخاصَّة في “جهادهم” قُبالة “العدُوّ” الغاشم المُتَربِّص بلبنان والمنطقة العربيّة بآن؟
هل كان لزياد مَن يرصد كلّ حركةٍ له ويعمل على اصطياده بأيِّ ثمَن؟
هل واجه زياد الظالمين والفاسدين والمُنحَرِفين في تعاطيهم مع حقوق االإنسان؟
هل ضيَّع زياد على الوطن فُرَصًا كان بإمكانه منحه إيّاها وبخَل؟
هل أراد زياد إضاعة “عُمره” في أمورٍ شخصيّة أو تافهة أو فاسدة وعن قصد وعن سابق تصوُّر وتصميم؟
هل أضاف زياد شيئًا على ثقافتنا وحضارتنا ؟
هل مرَّ زياد مِثل أيٍّ مِنَّا بأزمات حادّة نفسيّة-عاطفيّة وعلائقيّة ومادِّيَّة وماليّة طرَحتهُ “وحيدًا” في كلّ تلك المجالات؟
ألَّف زياد “أغاني تعكس القلق الوجوديّ[ خريستو المُرّ، نبيُّ الأيّام العاديّة، الأخبار، الثلاثاء 29 تمّوز 2025] على المصير كما في أغنيته «إيه في أمل» التي حمَلت في طياتها قلقًا ووعيًا ” … “مسرحياته بابٌ للشك والأسئلة: من نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ولماذا ما زلنا ننتظر؟ عميقًا بِواقعٍ متأزِّمٍ لِبلدٍ يأكل نفسَه ويَضمحلّ”.
“زياد الرحباني هو زياد الرحباني، نَصِفُه بنَفسِه، لا يُمكن حَصره في قالَب”، يُصِرّ خريستو المُرّ، وهو على حقّ.
حتّى “موته، كما حياته، لا يُقرأ إلا ضمن هذا إطار[ راجع: مروه جردي، الكنيسة … مسرحيّته الأخيرة، الأخبار، الثلاثاء 29 تمّوز 2025](“محاولة دؤوبة لكشف نفاق السلطة، الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة”): زياد لم يكتب النهاية[ المرجع السابق
]، بل صمّم مشهدًا أخيرًا يُختزل فيه كلّ ما حارَب”.
“في النهاية، لم يغادر زياد، تُؤَردِف مَروَه جردي، بل أبقى السِتارة نِصف مفتوحة، تاركًا الجمهور أمام السؤال: من سيُكمل المسرحية؟”