خيانة المقصد أم تحول في وجهة النظر؟

في زمنٍ تتعرّى فيه الحقائق على وقع القنابل والجوع والمجازر، يصبح الانحراف في البوصلة السياسية والأخلاقية جريمة في ذاته. وبينما يشهد العالم فصولاً متواصلة من حرب الإبادة التي تقودها إسرائيل ضد غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لا يبدو مستغرباً أن تلجأ تل أبيب إلى استراتيجيتها الأثيرة: تصدير الأزمة، وصناعة عدو بديل. لكن ما يثير الدهشة، وربما الأسى، هو أن تجد هذه الرواية الإسرائيلية صدى لدى بعض الأصوات العربية، لا سيما منها المعارضة “الإخوانية” وبعض النشطاء في الخارج، الذين يتبنون خطابات هجومية ضد مصر، زاعمين أنها تخلّت عن الفلسطينيين، وخصوصاً في معبر رفح.
إنها مفارقة صارخة: إسرائيل تتهم مصر بدعم “حماس” وتهريب السلاح إليها، فيما يتهمها بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة المصرية والعربية بالتخلي عن غزة والتواطؤ مع الاحتلال. اختلفت الأسباب وتناقضت، لكن النتيجة واحدة: هجوم متعدد الطرف يلتقي على هدف واحد هو تشويه دور مصر وإضعاف موقعها المركزي في القضية الفلسطينية.
منذ عام 1948 حتى اليوم، كانت مصر في مقدم المدافعين عن فلسطين، سياسياً وعسكرياً وإنسانياً. لم تخلُ مرحلة من مراحل الصراع من بصمة مصرية، سواء في الميدان أو على طاولات التفاوض. وفي الحرب الأخيرة، كانت القاهرة أول من أطلق المبادرات السياسية، وفعّلت قنواتها الديبلوماسية والمخابراتية، وسخّرت إمكاناتها لنقل الجرحى وإيصال المساعدات، وتحملت فوق طاقتها أعباء سياسية واقتصادية وأمنية، رغم تهديدات وضغوط غير مسبوقة.
وعلى عكس ما يروّجه البعض، فإن معبر رفح، المنفذ الوحيد غير الخاضع لسيطرة إسرائيل، ظل مفتوحاً طوال الأشهر الماضية من الجانب المصري، تمر عبره المساعدات والوفود الإغاثية والجرحى. لكن ما لا يُقال هو أن الجانب الفلسطيني من المعبر يقع تحت السيطرة الإسرائيلية غير المباشرة ثم السيطرة التامة في ظل احتلال الجيش الإسرائيلي للطرف المقابل من الحدود والسيطرة على معبر فيلادلفيا، حيث تمنع قوات الاحتلال مرور الشاحنات، أو تفرض إجراءات معقدة تؤخر الإمدادات. الأسوأ أن إسرائيل، التي تملك 6 معابر أخرى مع غزة، تغلقها جميعاً، ثم تُحمّل مصر وزر الحصار.
حين تنحرف بوصلة الغضب من تل أبيب إلى القاهرة، تتضح المكاسب التي تجنيها إسرائيل: تبرئة نفسها من جرائم الحرب، وتحويل مصر من حائط الصد إلى متهم، وتفكيك الجبهة العربية التي ترفض مخططات التهجير وإعادة احتلال غزة. وفي المقابل، يخسر الفلسطينيون حليفاً تاريخياً، ويدفع الرأي العام العربي إلى الانقسام بدل التوحد خلف قضيتهم.
لكن المؤسف أن بعض القوى المعارضة، بحسن نية أو بسوء تقدير، تسير في هذا الاتجاه، فتحرّض ضد مصر، وتهاجم سفاراتها، وتتهمها بالتقاعس، من دون أن تلمس السفارات الإسرائيلية أو تضغط لفتح معابر الاحتلال. فهل هذا دعم لفلسطين؟ أم خيانة للهدف وانحراف في الرؤية؟!
الهجوم الإسرائيلي على مصر في الكنيست لم يأتِ من فراغ. تحريض مباشر، اتهامات بمساندة “حماس”، مزاعم بمعاداة السامية، مخاوف من التحركات العسكرية المصرية في سيناء… كلها إشارات على أن تل أبيب ترى في القاهرة خصماً استراتيجياً، رغم معاهدة السلام. فمصر الدولة الوحيدة القادرة على تعطيل مشاريع التهجير، الدولة التي لا تزال تُسمي الاحتلال “عدواً”، وتفتح قنواتها للإغاثة لا للغزو.
الهجوم من الداخل والخارج على هذا الدور المصري ليس إلا محاولة لتمهيد الطريق أمام مشروع صهيوني أوسع: تفريغ غزة، وكسر الحليف العربي الأكبر، وجرّ المنطقة نحو صفقات مشبوهة بلا عمق ولا كرامة.
لا يمكن الدفاع عن فلسطين عبر تقويض مصر. ولا يمكن دعم غزة بالتشكيك في من يحمل عبء المواجهة الإغاثية والسياسية الأكبر. وإذا كانت إسرائيل تعمل على تحويل الأنظار عن جرائمها، فإن من يساعدها في ذلك، عمداً أو سهواً، إنما يطعن القضية ذاتها التي يدّعي الدفاع عنها.
الانحراف في الهدف خطيئة سياسية وقد تكون أخلاقية. ومن يريد أن ينصر فلسطين، فليصحح بوصلته، وليعرف أن المرمى الحقيقي ليس القاهرة، بل تل أبيب. مصر ليست خصماً، بل عمقاً استراتيجياً، وهاجساً دائماً للطرف الآخر إذا قرر أن يعادي، وهذا في ذاته شهادة صدق على مواقفها. ومن أراد أن يتأكد، فليسأل التاريخ… أو لينظر في عيون أهل غزة.