حياد يضمن الأمان للجميع: لبنان عند منعطف التاريخ

حياد يضمن الأمان للجميع: لبنان عند منعطف التاريخ

د. فادي جورج قمير

في خضم تحولات جذرية تشهدها المنطقة وتوترات متنامية على الحدود الجنوبية، برزت زيارة الموفد الرئاسي الأميركي، السفير توم براك، إلى بيروت للمرة الثالثة، حاملة معها لهجة حاسمة وموقفاً واضحاً: لا تفاوض مع “حزب الله”، ولا ضمانات أميركية لكبح الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ولا قدرة لواشنطن على إلزام إسرائيل بأي تعهد. في المقابل، لن تُقدَّم أي مساعدات للبنان ما لم تتخذ الدولة خطوات فعلية لضبط السلاح الخارج عن سلطتها.

ويأتي هذا التحوّل في المقاربة الدولية بالتوازي مع أحداث دامية شهدتها محافظة السويداء في سوريا، حيث وقع مئات الضحايا نتيجة صدامات عنيفة بين الدروز والبدو وفصائل خارجة عن القانون، في ظل تدخل متأخر من الجيش السوري، وانتهاكات طالت المدنيين، معظمهم من الطائفة الدرزية. هذه الاعتداءات، إلى جانب التفجير الإرهابي في كنيسة مار إلياس، وعمليات القتل الجماعي التي استهدفت العلويين، تعكس تصاعد المخاوف الوجودية لدى الأقليات في المنطقة، وتضع النقاش حول السلاح تحت ضوء جديد.

في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة تموضع لبنان عبر خطة لبنانية خالصة، لا مستوردة ولا مفروضة، تُعيد الاعتبار لمبدأ الحياد الإيجابي كمسار واقعي لإنقاذ البلاد من الأدلجة والانقسامات.

وقد شكّل ما طُرح في ندوة جامعة البلمند بتاريخ 14 تموز/يوليو 2025، بحضور الدكتور ميغيل أنخيل موراتينوس وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، دعوة واضحة إلى أن يبادر لبنان بوضع خطة عمل ترتكز إلى الدستور ومبدأ المواطنة، لا أن يبقى في موقع المتلقّي للضغوط والرسائل الخارجية.

إن اللبنانيين، بكل طوائفهم، يتوقون اليوم إلى كنف الدولة، ولا بديل عنها. دولة قوية، عادلة، حاضنة، تستعيد هيبتها على غرار ما تطالب به الدول المجاورة في سوريا. وما يصح هناك، يصح في لبنان، الذي لا يمكن أن يُدار بمنطق السلاح الخارج عن الشرعية، بل بمنظومة حيادية تحمي التعددية وتضمن الاستقرار.

الحياد الإيجابي ليس طرحاً جديداً. فقد شهد لبنان حقبة ذهبية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، حين رفض الدخول في الأحلاف، واجتمع بالرئيس جمال عبد الناصر لوضع صيغة للعيش المشترك. كما أُقرّ “إعلان بعبدا” عام 2012 في عهد الرئيس ميشال سليمان، وأطلق غبطة البطريرك الراعي عام 2020 مبدأ “الحياد السياسي الناشط”.

الحل المقترح لا يسعى إلى إقصاء أحد، بل إلى دمج عناصر المقاومة ضمن جهاز أمن رسمي تحت إشراف الدولة، كـ”حرس الحدود”، يُستحدث ليُعنى بحماية السيادة، ويخضع لتدريب وطني، ويُنصهر ضمن الاستراتيجية الدفاعية المستندة إلى إعلان بعبدا.

إن المشهد اللبناني يتطلّب رؤية جديدة، قوامها الفهم والعلم والولاء الوطني. فالسلاح الذي لم يستطع ردّ العدوان الإسرائيلي بات عبئاً على لبنان، يُهدّد بالاستعمال الداخلي، ويعمّق الانقسامات ويُفاقم النزيف الاقتصادي والهجرة.

إن إعادة بناء لبنان تبدأ بخطوة شجاعة: اعتماد الحياد الإيجابي كخيار استراتيجي جامع، يؤسس لدولة القانون والمؤسسات، ويصون النسيج اللبناني المتعدّد، ويُعيد لوطن الرسالة مكانته كجسر حضاري بين الشرق والغرب.

 

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.